في الذاكرة الروسية المسكونة بالقلق من الآخر أو الخارج، من الأعداء والغزاة، الذين لن يترددوا يوما أو لحظة في الإيقاع بها أو محاصرتها، وفي إيجاد ثغرة سياسية اقتصادية جغرافية يتسللوا منها. لم ولن ينسى الروس أن هتلر استغل الثغرة الأوكرانية من أجل التسلل إلى روسيا كما فعل قبله نابليون بونابرت الذي استغل جغرافية بيلاروسيا من أجل الوصول إلى قلب الإمبراطورية.
هذه الجغرافيا المعقدة والمربكة من عهد القياصرة إلى زمن السوفيات وصولا إلى روسيا البوتينية، ساهمت في تشكيل طابع وطبائع السلطة التي اعتمدت على التوسع الجغرافي زمن القياصرة وعلى الفضاء السوفياتي أو ما كان يعرف بالمجال الحيوي الروسي السوفياتي في العهد الشيوعي، لكنها أخذت طابعا عقائديا في هذه المرحلة، فرضته أزمة البحث عن هوية وطنية، ربطها صناع السياسة بمكونات المكان وامتداداتها التي تحولت إلى عقيدة جيوسياسية كانت الأوروآسياوية واحدة من تجلياتها.
القلق من فقدان مزيد من السيطرة الروسية على المجال الحيوي السوفياتي أو ما بات يعرف الآن بفضاء روسيا الأورآسيوي، يفرض تشددا روسيا في الأزمة البيلاروسية
في ذروة البحث عن تعريف للهوية الوطنية وللعقيدة السياسية للنظام، وتماشيا مع شيطنة الليبرالية واعتبارها أداة بيد الغرب والأطلسي تُستخدم ضد المجتمع والدولة في روسيا، لجأت نخب الكرملين إلى استخدام المعادلة التي روّج لها ألكسندر دوغين والقائمة على أن (القوة البحرية ـ الأطلسي، مقابل القوة البرية ـ أوراسية) وترجموها عمليا باستعادة الدور القاري (البري) لروسيا، واعتبروا أن القوة البرية مخولة نظريا ومرغمة استراتيجيا على التوسع بما يتناسب مع موقع روسيا، ومد النفوذ إلى ما يمكن اعتباره حدودا طبيعية مهما وصل حجم هذا التمدد.
في الوقت الذي كان الكرملين منشغلا في بلورة عقيدة جديدة للنظام الروسي، كانت الجيوسياسية الروسية وامتدادها تتعرض لنكسات بنيوية أدت إلى انتقال روسيا من موقع الهجوم إلى الدفاع، فالهيمنة على الفضاء الروسي الاستراتيجي تراجعت بعدما خسرت روسيا نفوذها في جورجيا، وتلقت الأوروآسياوية نكسة بعد خسارة الحيّز الأوكراني الذي بات خارج السيطرة.
القلق من فقدان مزيد من السيطرة الروسية على المجال الحيوي السوفياتي أو ما بات يعرف الآن بفضاء روسيا الأورآسيوي، يفرض تشددا روسيا في الأزمة البيلاروسية ورفض المساومة على موقع روسيا البيضاء الجيوسياسي، فالقضية بالنسبة للكرملين ليست الدفاع عن الرئيس ألكسندر لوكاشينكو بل منع سقوط خط الدفاع الأخير عن روسيا وتسليمه لأوروبا والأطلسي، حيث تحول الصراع إلى معركة لحماية الثغور التي تسللت منها أوروبا بنسختها البونابارتية سنة 1812 إلى روسيا، والتي ممكن أن تتكرر الآن من خلال استكمال الطوق الأوروبي على روسيا عبر جمهوريات البلطيق الثلاثة (ليتوانيا، إستونيا ولاتفيا) ومعهم أوكرانيا ومن الممكن أن تنضم إليهم بيلاروسيا.
خيارات موسكو الجديدة تجاه الوضع في مينسك باتت أقرب إلى إجراءات جذرية ما بين التدخل العسكري المباشر أو الضم عبر إعلان الاتحاد الروسي البيلاروسي في معركة الدفاع عن آخر الثغور
لذلك لا يمكن أن تترد موسكو في الحفاظ على مساحة عازلة بينها وبين الأوروبيين، ولا يمكن لها أن تثق بأطراف المعارضة في مينسك، وهي وبالرغم مما ارتكبه لوكاشينكو سابقا ومحاولات تمرده واللعب على توازن العلاقة ما بين روسيا وأوروبا، إلا أن الكرملين مستعد الآن طيّ صفحة الماضي وحماية لوكاشينكو حفاظا على تركيبة النظام التي من الممكن أن تضمن سلطة غير معادية لموسكو في مينسك.
لا يمكن لموسكو أن تتأخر في ردع الداخل البيلاروسي ووضع خطوط حمراء للخارج، فموسكو المرتابة دائما من الآخر، باتت تربط ما بين مواقف الاتحاد الأوروبي وبعض المناورات العسكرية للناتو، يضاف إليها ما كشفه قائد القوات الفضائية والجوية الروسية عن إجراء واشنطن لمناورات جوية تحاكي قصف روسيا من كندا وإستونيا عبر القاذفة الاستراتيجية B 52، فقد باتت هذه الأحداث بالنسبة لها مرتبطة بشكل ما بما يحدث في مينسك، وهذا ما شجع لوكاشينكو على مطاردة زعماء المعارضة تحت ذريعة تهديد الأمن القومي وافتعال اضطرابات على الحدود مع أوكرانيا.
وعليه فإن خيارات موسكو الجديدة تجاه الوضع في مينسك باتت أقرب إلى إجراءات جذرية ما بين التدخل العسكري المباشر أو الضم عبر إعلان الاتحاد الروسي البيلاروسي في معركة الدفاع عن آخر الثغور.
مصطفى فحص
12 سبتمبر 2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق