جدارية عن الانتفاضة العراقية في بغداد
يراقب المسؤولون الأميركيون باهتمام كبير، وببعض الأمل، انتفاضتي الخريف في العراق ولبنان، ولا يترددون في الاعتراف أنهم فوجئوا بقوة الحركة الاحتجاجية في البلدين، وخاصة تحديها الصارخ لنفوذ إيران في العراق، في المدن ذات الأكثرية الشيعية من بغداد إلى كربلاء إلى البصرة، وشمولية الاحتجاجات في لبنان من شماله إلى جنوبه ومطالبة المتظاهرين بتغييرات جذرية سياسية واقتصادية وانتخابية.
ومع أن النقمة العارمة في البلدين موجهة ضد المؤسسة الحاكمة بمجملها، إلا أنها في البلدين تستهدف بالدرجة الأولى حلفاء إيران الذين يسيطرون على كل أو معظم مقومات السلطة السياسية والمصالح الاقتصادية، والأهم من ذلك القوى التي تحتكر السلاح.
هذه القوى، التي تمثلها في العراق وحدات الحشد الشعبي وغيرها من القوى التي أنشأتها وسلحتها ومولتها إيران، هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن القمع الوحشي ضد المتظاهرين المدنيين في العراق الذي أودى بحياة أكثر من 250 مدني وجرح المئات.
إخفاق، أو تردد، الدولة العراقية في احتواء هذا العنف هو دليل آخر على هشاشة الدولة التي بنيت على المحاصصة الدينية والإثنية منذ الإطاحة بنظام البعث في 2003 وعلى عمق النفوذ الإيراني في البلاد.
انتفاضتا العراق ولبنان جاءتا في الوقت الذي تواجه فيه إيران أزمة اقتصادية خانقة
في لبنان، القوى التي تعتبر نفسها مستهدفة بالدرجة الأولى من الحركة الاحتجاجية: التيار الوطني الحر، و"حزب الله" وحركة أمل، تحاول ترهيب وقمع الحركة الاحتجاجية من خلال الاعتداء الجسدي على المتظاهرين، والتلويح بعنف أكبر وتخويف اللبنانيين من حرب أهلية جديدة، وبوصف المتظاهرين على أنهم يخدمون مصالح أجنبية.
ردود فعل القوى المهيمنة، والتي ترعاها إيران في العراق ولبنان، وخاصة القوى الشيعية يؤكد بوضوح لا لبس فيه أنها تواجه للمرة الأولى منذ احتكارها للسلطة تحديات داخلية خطيرة لم تواجهها من قبل، جعلتها تلجأ إلى عنف مفرط في العراق، وإلى ارتباك وحتى تخبط في لبنان.
ويتوقع المسؤولون الأميركيون أن تؤدي الحركة الاحتجاجية في العراق إلى إرغام رئيس الوزراء عادل عبد المهدي على الاستقالة، كما فعل في الأسبوع الماضي رئيس وزراء لبنان سعد الحريري.
انتفاضتا الخريف في العراق ولبنان لهما مطالب متشابهة إلى حد كبير والاحتجاجات موجهة ضد مؤسستين حاكمتين لديهما قواسم مشتركة: فساد مالي وأخلاقي يشمل الطبقة السياسية بأطيافها المختلفة، تدهور ملحوظ في نوعية الحياة في السنوات الاخيرة (وهو أمر سافر للغاية في العراق الدولة التي تنتج أكثر من 4 ملايين برميل من النفط في اليوم). معدلات البطالة العالية في صفوف الشباب، الاحتقار الخطير للبيئة والذي أدى في لبنان إلى تلوث الأنهر والشواطئ والازدياد المروع في نسب مرض السرطان.
بعد 16 سنة على سقوط صدام حسين في العراق، وبعد عشرات السنين من انتهاء الحرب في لبنان لا يتمتع العراقي أو اللبناني بأكثر من ساعات محدودة من الخدمة الكهربائية في اليوم. المياه ملوثة في بلدين غنيين بالمياه، الفقر يزداد شيوعا، والخدمات الطبية إما غير متوفرة أو كلفتها باهظة للغاية.
يقرأن خلال قطع أحد الطرق في بيروت
في العراق، الهدر المالي خيالي. في لبنان الفساد أصبح ثقافة سائدة. المسؤولون في العراق ولبنان لا يخضعون لأي محاسبة أو مسائلة، وكل انتخابات برلمانية تجلب الأحزاب ذاتها ولا تغير أي شيء باستثناء تثبيت الممارسات ذاتها التي أوصلت البلدين إلى طريق مسدود. المتظاهرون في البلدين يعبرون عن إحباط عميق، لأن القرارات السيادية في بغداد وبيروت تهيمن عليها إلى حد كبير إيران ووكلائها وعملائها المحليين.
انتفاضتا العراق ولبنان جاءتا في الوقت الذي تواجه فيه إيران أزمة اقتصادية خانقة بسبب العقوبات الشاملة التي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في سياق ما تسميه سياسة "الضغوط القصوى" ضد طهران، والتي تشمل عقوبات أخرى ضد حلفاء إيران ووكلائها في العراق ولبنان.
أرغمت هذه العقوبات إيران و"حزب الله" على اعتماد سياسات التقشف وقطع المساعدات وتقنين الخدمات التي كانت تستفيد منها آلاف العائلات، وخاصة عائلات مقاتلي "حزب الله" الذين قتلوا أو جرحوا في سوريا.
يقول المسؤولون الأميركيون إن هناك مشاعر قلق حقيقي في طهران من أن تتحول التظاهرات الاحتجاجية في العراق ولبنان إلى تهديد خطير ونوعي وغير معهود لمصالح إيران الاستراتيجية ومكاسبها السياسية التي حققتها في العقود الماضية في العالم العربي.
وهنا يتحدث المسؤولون الأميركيون بمزيد من الأمل والقلق حول المرحلة المقبلة في العراق ولبنان. فهم يشيرون إلى دور عقوباتهم في تعميق المأزق الاقتصادي الإيراني، ولكنهم يتخوفون الآن من احتمال ازدياد شراسة الثورة المضادة في العراق، وتحول الترهيب والضرب بالعصي في لبنان إلى مرحلة سفك دماء المتظاهرين العزل.
ويعتقد البعض في واشنطن أن العنف المحدود الذي أمر به "حزب الله" ضد المتظاهرين يهدف، من جملة ما يهدف إليه، إلى امتحان مدى تحمل المجتمع الدولي للعنف الذي يتوقع أن يستخدمه إذا استمرت الحركة الاحتجاجية على زخمها الراهن.
انتفاضتا العراق ولبنان فرضتا على إيران ووكلائها في البلدين تحديات كشفت مدى انتهاكات إيران لهذين البلدين
ولاحظ المسؤولون والمراقبون في واشنطن باهتمام كبير ما جاء في تقرير لوكالة الأنباء "الأسوشييتد برس"، حول قيام قاسم سليماني قائد فيلق القدس والمشرف على نفوذ إيران في العالم العربي بزيارة ليلية إلى بغداد بعد بدء الحركة الاحتجاجية وترأسه اجتماعا حكوميا بدلا من رئيس الوزراء، وقوله للمسؤولين العراقيين "نحن في إيران نعرف كيف نتعامل مع الاحتجاجات. هذا ما حدث في إيران وسيطرنا عليه"، وذلك في إشارة ضمنية إلى قمع التظاهرات الاحتجاجية السلمية في إيران في 2009.
ولا يمكن استبعاد وجود قلق إيراني من أن يؤدي استمرار انتفاضتي العراق ولبنان، وخاصة تركيز غضب المتظاهرين على القيادات المحسوبة على إيران وعلى النفوذ السيء لإيران، إلى انتقال عدوى الحركة الاحتجاجية من العراق ولبنان إلى ساحات وشوارع المدن الإيرانية، خاصة وأن إيران شهدت في السنتين الماضيتين تظاهرات احتجاجية ضد الفساد والهدر المالي في عدد من المدن والبلدات، وإن بقيت محدودة.
بعد مرور أكثر من خمسة أسابيع على الانتفاضتين، يلاحظ أن ردود فعل واشنطن بقيت محدودة و"معتدلة"، ويقول المسؤولون الأميركيون في إيجازات خلفية إن هذا الموقف مدروس لأن آخر ما تريده واشنطن هو أن توفر لإيران حجة للادعاء أن الولايات المتحدة وحلفاؤها يقفون وراء انتفاضتين محليتين يملكهما ويمولهما شعبين قالا بصوت حاد "كفى"، ويلخصها في العراق شعار "نازل آخذ حقي" وفي لبنان "كلن يعني كلن".
ويمكن القول إن مخاوف إيران قد ازدادت في الأيام الماضية وخاصة مع ازدياد حدة الضغوط الشعبية في العراق ضد إيران ورموزها. فأن يقوم المتظاهرون العراقيون باجتياح القنصلية الإيرانية في مدينة كربلاء، من بين جميع المدن العراقية، هو تطور خطير برمزيته وأبعاده السياسية. الاجتياح، وحرق قسم من القنصلية، هو انتهاك صارخ للأعراف الديبلوماسية ويستحق الإدانة، وكان يجب التصدي له، ولكن مجرد حدوث مثل هذا العمل ضد إيران وفي قلب كربلاء يمثل نقلة نوعية في موقف العراقيين تجاه النفوذ الإيراني الخانق في بلادهم.
العنف الميليشياوي السافر ضد المتظاهرين في العراق، تدخل قاسم سليماني السافر في شؤون العراق، وتهديدات حسن نصرالله و"حزب الله" وحركة أمل بعنف أكبر ضد المتظاهرين في لبنان كلها مؤشرات تقول بأن إيران لن تتخلى بسهولة عن "استثماراتها" المادية والسياسية ومصالحها الاستراتيجية والاقتصادية في العراق وسوريا ولبنان.
ومنذ سقوط نظام البعث في العراق، وإيران تعمل على بناء تنظيمات أمنية موالية لها في مواجهة مؤسسات الدولة العراقية، على طريقة ما فعلته منذ عقود في لبنان حين بنت "حزب الله" كأقوى تنظيم عسكري في لبنان.
وترى إيران أن أي نجاحات تحققها انتفاضتا العراق ولبنان سوف تكون بالضرورة على حساب القوى التي خلقتها ورعتها طهران في البلدين، وهذا بدوره سوف يؤثر سلبا على نفوذ ومصالح إيران الكبيرة في سوريا، حيث "استثمرت" إيران الكثير من الموارد البشرية والمادية خلال الحرب السورية الشرسة.
مخاوف إيران ازدادت في الأيام الماضية وخاصة مع ازدياد حدة الضغوط الشعبية في العراق ضد إيران ورموزها
وحده استمرار الانتفاضتين بزخم كبير، وتمسك المتظاهرين بحقوقهم ومطالبهم الأساسية، واعتمادهم للنضال السلمي يمكن أن يؤخر أو أن يزيد من إرباك قوى الثورة المضادة وخاصة في لبنان قبل الإقدام على عنف أكبر.
صحيح أن وسائل الاعلام الغربية ـ ونحن في هذا المقال نستطيع أن نتحدث بثقة أكثر عن وسائل الإعلام الأميركية ـ لم تعط الانتفاضتين حقهما بتغطية شاملة، ولكن لجوء المتظاهرين، وخاصة في لبنان، والجاليات اللبنانية والعراقية في الخارج إلى استخدام وسائل الاتصال الاجتماعي بمختلف اللغات لشرح أبعاد الحراك الاجتماعي، قد عوض بعض الشيء عن غياب التغطية الإعلامية الغربية.
انتفاضتا الخريف في العراق ولبنان فرضتا على إيران ووكلائها في البلدين تحديات كشفت مدى انتهاكات إيران لهذين البلدين، وكشفت مدى توق العراقيين واللبنانيين إلى الانتماء الى وطن جامع، وإلى العيش في مجتمع يحترم إنسانيتهم وحقهم كمواطنين متساوين بحياة كريمة تحت حكم صالح.
اللبنانيون والعراقيون يجب ألا يتخلوا عن أملهم بأن تؤدي انتفاضتا الخريف إلى ربيع جديد في لبنان وفي بلاد ما بين الرافدين.
----------------
04 نوفمبر، 2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق