تلاميذ المدارس الدينية السودانية وهم مقيدون بالسلاسل- "بي بي سي"
كيوبوست- عبدالجليل سليمان
أعاد تحقيق تليفزيوني بثَّه تليفزيون “بي بي سي”، قضية تعذيب آلاف الصبية السودانيين من تلاميذ المدارس الدينية التي يطلق عليها محليِّاً (الخلاوي)، وهم يتعرضون إلى التنكيل والتعذيب والاستغلال، إلى الواجهة مجدداً، وأصبح حديث الرأي العام المحلي والدولي، بينما السلطات لا تحرِّك ساكناً؛ إما خشية من استثارة شيوخ هذه (الخلاوي)، وإما لأنها لا تخضع لإدارة وزارة التعليم، وإنما نسبياً لوزارة الشؤون الدينية والأوقاف التي يسيطر عليها في الغالب أتباع هؤلاء الشيوخ الذين يملكون ويديرون المدارس الدينية موضوع الانتهاكات الجسيمة.
أجرى “كيوبوست” العديد من الاتصالات مع بعض شيوخ الخلاوي لأخذ وجهة نظرهم حول هذا الموضوع الخطير، كما حاول الاتصال بمسؤولين في وزارة التربية والتعليم؛ لكن معظمهم آثروا الصمت إلى حين انتهاء التحقيقات الجارية، عدا واحداً؛ طلب عدم الإشارة إلى اسمه أو وظيفته، مبرراً ذلك بأن الوزارة تمنع التعامل مع أجهزة الإعلام؛ خصوصاً في القضايا قيد التحقيقات والتحريات.
انتهاكات مهولة
يقول المسؤول الكبير في وزارة التربية والتعليم بولاية الخرطوم لـ”كيوبوست”: إن المدارس الدينية (الخلاوي)، لعبت دوراً مهماً في تاريخ التعليم بالسودان؛ بل ومنها انطلق قطار التعليم ولم يتوقف حتى الآن، لكنها كانت تخضع للمراقبة إبان الإدارة البريطانية، وما أن نال السودان استقلاله حتى أصبحت مستقلة بذاتها عن الحكومة، لا تعرف مصادر تمويلها، ولا توجد إحصائيات دقيقة بعدد طلابها، ولا يُعرف شيء عن منهجها الدراسي ولا عن كيفية تعيينها للمُدرسين، وكل ذلك تحت عنوان واحد هو إحياء القرآن والعلوم الدينية، وهذه متاجرة رخيصة بالدين من وجهة نظري.
اقرأ أيضاً: سودانيون يؤكدون: معارضة الإخوان للتطبيع موقف انتهازي
ما حدث من تعذيب وتنكيل ليس غريباً، فهذا ظل يحدث باستمرار وطوال الوقت، والحكومة ممثلة في وزارتَي الشؤون الدينية والتربية والتعليم والأجهزة العدلية والشرطية، كلها تعلم ذلك وتغض الطرف عنه؛ لِما لشيوخ هذه الخلاوي والمستفيدين منها مِن سطوة وقوة يبتزون بها ويطيحون من خلالها بكل من تسوِّل له نفسه اتخاذ أي إجراءات ضدهم؛ بما ذلك وسائل الإعلام الرسمي والخاص، كلها تخشى بأس هؤلاء وتتواطأ معهم أحياناً.
ليس لديَّ أكثر من التأكيد أن هذه الممارسات البشعة موجودة ومستمرة؛ بل هي أقرب إلى العبودية، فيها تقييد بالسلاسل وعقوبات جسدية وحشية واستغلال جنسي، كما أن بعض الشيوخ يجبرون التلاميذ القُصَّر على العمل، ويأخذون منهم الأجور القليلة التي يتحصلون عليها.
تجارة بالدين في سبيل السياسة
“لا توجد إحصائيات دقيقة بعدد الصبية الملتحقين بصورة دائمة أو مؤقتة بهذه (الخلاوي)؛ لكنهم على الأرجح يبلغون ما يربو على 100 ألف”، تقول الإعلامية والباحثة في التربية والتعليم ريتا مدني، وتضيف: “تعتبر المدارس الدينية أحد مواعين التعليم المعترف بها رسمياً في السودان؛ لكنها بقيت محدودة في كل شيء، بما في ذلك تأثيرها على المجتمع، إلا أنها خلال عقود ثلاثة من حكم الكيزان (الإخوان) حظيت بدعم كبير؛ في محاولة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، بحيث يصبح التعليم الديني التقليدي أكثر هيمنة من الأكاديمي الحديث، وهذا ما يمكنهم من تجهيل المجتمع، ومن ثمَّ السيطرة عليه والتحكم به، فضلاً عن توسيع قاعدة مؤيديهم من خريجي وأساتذة هذه (الخلاوي)، وبناءً على ذلك انتشرت المدارس الدينية وتمددت في جميع أنحاء البلاد، وأصبحت مصدر دخل لشيوخها الذين يتلقون دعماً من الحكومة والمجتمع، من خلال السماح لهم بجمع التبرعات باسم دعم حافظي القرآن الكريم.
شاهد: فيديوغراف.. اتفاق مشروط لرفع السودان من قوائم الإرهاب الأمريكية
تواصل ريتا مدني حديثها إلى “كيوبوست”: “بالنسبة إلى ما يحدث في (الخلاوي) من عقوبات تتراوح بين الضرب المبرح والتجويع والتقييد بالسلاسل والتعذيب والحبس الانفرادي؛ فإن هذا يحدث منذ زمن بعيد، وربما يعتبر صفة ملازمة للتعليم الديني، وظل الجميع يغضون الطرف عنه، لولا وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. أما بالنسبة إلى أُسر الضحايا، فغالبيتها تعلم بما يُمارس ضد أبنائها؛ لكن الشيوخ يقنعونها بأن هذا التعذيب لا يستهدف الطفل، وإنما الجن الذي يسكنه ويسيطر عليه ويمنعه من حفظ القرآن. وبالتالي، فإنهم كمريدين لشيوخهم يرضخون لمشيئتهم ويتقبلون تبريراتهم؛ فهم لا يعصون لشيوخهم أمراً، وهذا ما شجع على استمرار الضرب والتنكيل والتعذيب، ورغم ذلك تجد بعض الأسر الفقيرة نفسها مُضطرة إلى إرسال أبنائها إلى (الخلاوي)؛ لأنها تقدِّم لهم الطعام على أقل تقدير، كما أن آخرين يلحقون أطفالهم بها حال فشلهم في التعليم المدرسي الحكومي، وهذا يشير إلى أن الآباء يعلمون لو جزئياً بما يدور في (الخلاوي) من بلاوي”.
هنالك أمر مهم، لا بد من ذكره في هذا الصدد، وهو أن نظام الإخوان البائد يتحمَّل المسؤولية كاملة في ما يحدث في هذه “الخلاوي”؛ لأنه مَن دعمها وشجَّع على التوسع بها بعد أن انحسرت وانحصر دورها في تحفيظ القرآن في الإجازات المدرسية والإرشاد الديني؛ لكنه أعادها إلى الواجهة مرة أخرى لأسبابٍ سياسية رغم الفظائع التي تُرتكب فيها وتجعل طلابها بعد تخرجهم أكثر تطرفاً وعداءً للمجتمع ولمَن حولهم.
هنا مركز الانتهاكات والشعوذة
وفي السياق ذاته، اعتبر المحلل السياسي حذيفة الجلاد أن تاريخ وجود “الخلاوي” يعود إلى قرون؛ فقد كانت المؤسسة التعليمة الوحيدة في مجتمعات لم تكن تعرف أنشطة أخرى غير الرعي والزراعة وبعض الحرف اليدوية ذات الصلة بهما، حينها كان المجتمع رقيباً على هذه “الخلاوي” وله سطوة كبيرة عليها؛ لأنه مَن يدعمها مالياً، لذلك كان يختار المشرفين عليها بنفسه، ويخضعهم لرقابة دائمة.
الآن، رغم التطور في التعليم؛ فإن (الخلاوي) ما زالت سائدة في بعض المناطق التي لم تنل حظاً من التنمية، رغم أن منسوبيها لا يحوزون المعارف والمهارات الكافية التي تمكنهم من مواجهة متطلبات الحياة الحديثة والأكثر تطوراً.
يضيف الجلاد: “بالنتيجة قلَّت مراقبة المجتمع على (الخلاوي) والقائمين عليها؛ خصوصاً في المدن، حيث لا يشرف على اختيارهم أحد، يفرضون أنفسهم على زبائنهم من أبناء النازحين (الذكور) وعلى الفئات الأشد فقراً؛ حيث إن غياب التعليم المجاني علاوة على الفقر المدقع؛ يُسهمان في رفدِها بمزيد من التلاميذ، ما يجعل التبرعات والدعم المادي والعيني تنهال على (شيخها)، وهذا ما أغرى فئات أخرى من الدجالين والمشعوذين على الاستثمار في هذا المجال، فصارت (الخلاوي) واجهاتٍ لممارسة الدجل والشعوذة، وظهرت على شيوخها إمارات الثراء كشراء المنازل والسيارات الفاخرة وامتلاك العمارات والأعمال التجارية”.
اقرأ أيضاً: ماذا يريد السودان من تطبيع العلاقات مع إسرائيل؟
يمضي الجلاد في حديثه إلى “كيوبوست”، مُفصِّلاً: “من خلال مشاهداتي المباشرة والشخصية ومراقبتي لإحدى (الخلاوي) (جوار منزلي)، لاحظتُ أن الشيخ يُرسل أبناءَه إلى المدارس الحديثة، بينما يستغل تلاميذه في الأعمال داخل الخلوة وجلب (المقاضي) والطلبات الخاصة بالمنزل، كما يؤدون مختلف الأعمال المنزلية داخله، هذا الشيخ كثيراً ما تزوره النساء وبعض الرجال طلباً للشعوذة والدجل، بينما السلطات ترى ولا تتحرك!”.
الأدهى أن الخلوة تفوِّض بعض سلطات الشيخ للتلاميذ الأكبر سناً (مراهقين) فيتحولون إلى (شبه معلمين)؛ ليفرضوا هيمنتهم على التلاميذ (الأطفال)، فيوقعون عقوبة الجلد عليهم. وبالطبع في وضع مختل كهذا؛ لا يُمكن ضمان عدم وقوع اعتداءات جنسية.
أما بالنسبة إلى عقوبة التقييد بالحبال أو السلاسل، فهي موجودة، وإن لم تكن بشكل موسَّع، ولا أستطيع الجزم بنوع الحالات التي تستخدم فيها؛ فـ”الخلاوي” تستخدم تاريخياً كمشافٍ للأمراض النفسية باعتبارها ناجمة من مسٍّ من الشيطان أو حالة من الجنون، وهذا يتيح إمكانية استخدام العقاب البدني في كثير من الأحوال.
غياب الدولة
وأشار الصحفي والباحث السياسي عبدالرحمن فاروق، إلى أن الظواهر السلبية متعددة داخل مؤسسة الخلاوي في السودان، ولا تقتصر على العنف ضد التلاميذ بل تتجاوزه، فهؤلاء الأطفال يعيشون ظروفاً صحية سيئة من ناحية التغذية والنظافة والراحة، ويعانون تقشفاً وشظفاً لا يليق بأعمارهم ويتعارض مع ظروف نموهم الطبيعي، فضلاً عن أن كل هذه الظروف القاسية ترتبط في أذهانهم بالقرآن الكريم؛ وهو ما يسهم في خلق بنية وعي ديني تحول دون قدرتهم على العيش والاندماج في واقع مديني متعدد ومتحضر.
يضيف فاروق: “يوماً بعد يوم تتعاظم الفوارق بين النظامَين التعليميَّين التقليدي والحديث؛ فبينما نجد على الضفة الأخرى توسع المدارس الأجنبية الحديثة، نجد هنا واقعاً تعليمياً شديد الرداءة والسوء. ولا يقتصر الالتحاق بالمدارس الدينية (الخلاوي) على أبناء الريف؛ بل إن بعض الأسر القاطنة في المدن تدفع بأبنائها إليها، كعقوبة على تقصيرهم في المدارس النظامية”.
وأشار فاروق إلى أن (الخلاوي) غير خاضعة لأي نوع من الرقابة؛ لذلك سرعان ما تصبح مكاناً مثالياً لممارسة كل الانتهاكات، وهنا يبرز السؤال المهم: لماذا تغيب الرقابة عنها، رغم أنها مؤسسات تعليمية ودينية يعود تاريخ تأسيسها إلى القرن السادس عشر الميلادي، وكانت لها مساهمات مُقدَّرة في القضاء على الجهل والأمية؟ ومن وجهة نظري، يعود ذلك إلى المفارقة التي ظل يعانيها السودان باستمرار، وهي وجود ما يمكن تسميته بالدولة النظامية السطحية، مع وجود جهاز دولة حديث وبيروقراطي أسسه المستعمر، إلا أنه لا يزال سطحياً لا تأثير له على عمق المجتمع وغير قادر على تنظيمه وتحديثه؛ لأن رؤيته للتعليم والعمل تختلف كلياً عن رؤية المجتمعات الريفية لهما، لذلك فشل في استيعاب (الخلاوي) ضمن النظام التعليمي الحديث، وتركها نهباً للمجهول.
شاهد: السودان يُثمِّن دعم الإمارات جهود السلام
الآن، حان الوقت لعقلنة الدولة وظيفياً وأخلاقياً؛ بحيث تصبح مرجعية للمجتمع بتكريس دورها وتعميق حضورها داخله، أما عملية المواءمة بين التعليم الحديث والتقليدي، فستكون أحد المؤشرات المهمة على ذلك، ويمكن أن تتم بدمج (الخلاوي) في التعليم النظامي، وإتاحة الفرصة للطلاب لحفظ القرآن الكريم عبر نشاط تعليمي خاضع لإشراف ومتابعة وزارة التعليم، ومقيداً بشروط التعليم الحديث، بجانب إعادة تأهيل (الخلاوي) وتطوير بيئتها، مع الاحتفاظ بعلاماتها ورموزها التقليدية داخل عملية التحديث؛ بما يحفظ هويتها التراثية المميزة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق