دولة مدنية مع الثوار لا مع أحزاب طائفية ودينية
عطب في النظام اللبناني جعل تأليف الحكومات يحتاج إلى أشهر من المناورات والمماحكات
رفيق خوري
السبت 16 نوفمبر 2019
التغيير في الأنظمة الديمقراطية ليس في حاجة إلى ثورة. لا ثورة عنيفة، ولا ثورة سلمية. تشغيل آليات النظام يكفي لحدوث التغيير، وخصوصاً عبر الانتخابات التي وصفها الكسيس دو توكفيل بأنها "ثورات دستورية". وليس نزول ثلث اللبنانيين إلى الشارع على مدى أسابيع في ثورة شعبية سلمية عابرة للطوائف والمذاهب سوى دليل على وجود عطب في آليات النظام بما يحول دون التغيير وحتى إلى الحد الأدنى من الإصلاح. وهو عطب جعل تأليف الحكومات يحتاج إلى أشهر من المناورات والمماحكات للاتفاق على الحصص الوزارية. لا بل ترك الجمهورية بلا رئيس لمدد غير قصيرة ثلاث مرات، بعد سابقة دامت أياماً قليلة بين استقالة الرئيس الاستقلالي الأول بشارة الخوري الذي عين حكومة مختصرة برئاسة قائد الجيش الجنرال فؤاد شهاب وبين انتخاب "فتى العروبة الأغر" النائب كميل شمعون رئيساً.
عام 1988 انتهت ولاية الرئيس أمين الجميل من دون انتخاب خلف له، فانتقلت السلطة إلى "حكومتين": واحدة عيّنها الجميل برئاسة قائد الجيش العماد ميشال عون، وأخرى كانت قائمة برئاسة الدكتور سليم الحص. والنتيجة تصعيد في الحرب الدائرة منذ العام 1975. الذهاب إلى الطائف لترتيب اتفاق يعدل الدستور برعاية لجنة ثلاثية عربية ودعم دولي سمي "اتفاق الطائف". واقتحام القوات السورية الموجودة في لبنان أصلاً كقوات ردع القصر الجمهوري في بعبدا لإخراج العماد عون وإنهاء ما سمي "التمرد" على الشرعية والرئيس الياس الهراوي.
دمشق قررت التمديد للهراوي ثلاث سنوات بعد انتهاء السنوات الست للولاية، ثم دعمت انتخاب قائد الجيش العماد إميل لحود رئيساً، وعادت تمدد له نصف ولاية بعد انتهاء ولايته. وعندما انتهت الرئاسة الممدد لها كان على اللبنانيين معاناة أشهر من الشغور الرئاسي قبل الذهاب إلى الدوحة والتوصل إلى "اتفاق الدوحة"، الذي قاد إلى انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً.
بعد انتهاء ولاية سليمان كان موقف "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" حاسماً: العماد ميشال عون رئيساً أو لا انتخابات. وكان على اللبنانيين معاناة عامين ونصف العام من الشغور الرئاسي قبل التسوية الرئاسية التي أوصلت عون إلى القصر الجمهوري وأعادت الرئيس سعد الحريري إلى السراي الحكومية.
التسوية الرئاسية اهتزت. الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية تعاظمت. وعشية الذكرى الثالثة لانتخاب عون قامت الثورة الشعبية السلمية المستمرة. فلا تغيير من دون ثورة ما دامت الديمقراطية تفقد حتى مظاهرها والطقوس بعد الجوهر. ولا مجال لخروج الناس من الشارع من دون تحقيق التغيير المطلوب. وما يحدث هو أنه كلما ارتفع منسوب المطالب الشعبية بالتغيير، ازداد منسوب التصلب والعناد لدى السلطة. فمن جهة محاولات لاحتواء الثورة عبر الادعاء أن بعض مطالبها هي مطالب أهل السلطة، ومن جهة أخرى اتهام الثوار بأنهم "مخدوعون" من عناصر تنفذ "أجندة تآمرية" ضد العهد و"حزب الله" وامتداد المحور الإيراني.
يقول بيتر هاسلر مراسل "نيويوركر" في القاهرة بين العامين 2011 و2016 في كتاب جديد تحت عنوان "المدفون: أركيولوجيا الثورة المصرية" أن "سلطوية غير بنيوية أخطر من سلطوية بنيوية". والثورة الشعبية السلمية من أجل التغيير في لبنان تواجه نوعاً من "سلطوية غير بنيوية" في ثياب ديمقراطية وثياب "مقاومة". وأهم ما في الثورة أنها أطلقت "طاقات" كامنة في شعب أريد له أن يبقى إلى الأبد أسير العصبيات الطائفية والمذهبية. طاقات تتخطى الطوائف والمذاهب وعصبياتها ومصالح أمراء الطوائف إلى بناء دولة مواطنين، لا دولة رعايا.
والواقع أن لبنان كان ولا يزال مدرسة سياسية ومرصداً للأفكار ومختبراً للصراعات في المنطقة. كان مدرسة لتعليم مادة الطائفية التي تكاثر طلابها العرب، وخصوصاً بعد قيام ثورة الخميني في إيران وتوظيف العصبية المذهبية في مد النفوذ الإقليمي لطهران. أما بعد الثورة الشعبية، فإن المدرسة اللبنانية تعلم مادة الديمقراطية ومادة الدولة المدنية. أليس هذا ما يطالب به الثوار في العراق اليوم، وهم يواجهون العنف الذي قتل المئات وجرح الآلاف والاتهامات الإيرانية بـ "التآمر" مع أميركا؟ أليس هذا ما يجب أن تنتهي إليه التسوية السياسية في سوريا واليمن وليبيا والسودان والجزائر؟
اتفاق الطائف فتح مخرجاً لتخطي النظام على مراحل نحو دولة مدنية من خلال تجاوز الطائفية السياسية. والدولة المدنية هي التعبير البديل من النظام العلماني الذي يثير حساسيات معينة لدى أكثر من فريق. لكن الممارسة بعد الطائف قادت إلى المخرج المعاكس: الانتقال من الطائفية إلى المذهبية. والامتحان واضح: كل مسؤول يقول للبنانيين إن هدفه الوصول إلى دولة مدنية أمامه حليف موثوق هو الثورة الشعبية السلمية. وكل رهان على تحالف مع قوى وأحزاب وتيارات طائفية أو دينية هو وصفة لجعل النظام أكثر طائفية ومذهبية. وهذا ما يضمن لأمراء الطوائف النفوذ والاستمرارية والحصص في المال والسلطة. ولو كنا في دولة مدنية لما رأينا على المسرح السياسي كل هذه التركيبة الحاكمة.
لبنان لا يزال مدرسة سياسية ومرصداً للأفكار ومختبراً للصراعات في المنطقة (غيتي)
التغيير في الأنظمة الديمقراطية ليس في حاجة إلى ثورة. لا ثورة عنيفة، ولا ثورة سلمية. تشغيل آليات النظام يكفي لحدوث التغيير، وخصوصاً عبر الانتخابات التي وصفها الكسيس دو توكفيل بأنها "ثورات دستورية". وليس نزول ثلث اللبنانيين إلى الشارع على مدى أسابيع في ثورة شعبية سلمية عابرة للطوائف والمذاهب سوى دليل على وجود عطب في آليات النظام بما يحول دون التغيير وحتى إلى الحد الأدنى من الإصلاح. وهو عطب جعل تأليف الحكومات يحتاج إلى أشهر من المناورات والمماحكات للاتفاق على الحصص الوزارية. لا بل ترك الجمهورية بلا رئيس لمدد غير قصيرة ثلاث مرات، بعد سابقة دامت أياماً قليلة بين استقالة الرئيس الاستقلالي الأول بشارة الخوري الذي عين حكومة مختصرة برئاسة قائد الجيش الجنرال فؤاد شهاب وبين انتخاب "فتى العروبة الأغر" النائب كميل شمعون رئيساً.
عام 1988 انتهت ولاية الرئيس أمين الجميل من دون انتخاب خلف له، فانتقلت السلطة إلى "حكومتين": واحدة عيّنها الجميل برئاسة قائد الجيش العماد ميشال عون، وأخرى كانت قائمة برئاسة الدكتور سليم الحص. والنتيجة تصعيد في الحرب الدائرة منذ العام 1975. الذهاب إلى الطائف لترتيب اتفاق يعدل الدستور برعاية لجنة ثلاثية عربية ودعم دولي سمي "اتفاق الطائف". واقتحام القوات السورية الموجودة في لبنان أصلاً كقوات ردع القصر الجمهوري في بعبدا لإخراج العماد عون وإنهاء ما سمي "التمرد" على الشرعية والرئيس الياس الهراوي.
دمشق قررت التمديد للهراوي ثلاث سنوات بعد انتهاء السنوات الست للولاية، ثم دعمت انتخاب قائد الجيش العماد إميل لحود رئيساً، وعادت تمدد له نصف ولاية بعد انتهاء ولايته. وعندما انتهت الرئاسة الممدد لها كان على اللبنانيين معاناة أشهر من الشغور الرئاسي قبل الذهاب إلى الدوحة والتوصل إلى "اتفاق الدوحة"، الذي قاد إلى انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً.
بعد انتهاء ولاية سليمان كان موقف "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" حاسماً: العماد ميشال عون رئيساً أو لا انتخابات. وكان على اللبنانيين معاناة عامين ونصف العام من الشغور الرئاسي قبل التسوية الرئاسية التي أوصلت عون إلى القصر الجمهوري وأعادت الرئيس سعد الحريري إلى السراي الحكومية.
التسوية الرئاسية اهتزت. الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية تعاظمت. وعشية الذكرى الثالثة لانتخاب عون قامت الثورة الشعبية السلمية المستمرة. فلا تغيير من دون ثورة ما دامت الديمقراطية تفقد حتى مظاهرها والطقوس بعد الجوهر. ولا مجال لخروج الناس من الشارع من دون تحقيق التغيير المطلوب. وما يحدث هو أنه كلما ارتفع منسوب المطالب الشعبية بالتغيير، ازداد منسوب التصلب والعناد لدى السلطة. فمن جهة محاولات لاحتواء الثورة عبر الادعاء أن بعض مطالبها هي مطالب أهل السلطة، ومن جهة أخرى اتهام الثوار بأنهم "مخدوعون" من عناصر تنفذ "أجندة تآمرية" ضد العهد و"حزب الله" وامتداد المحور الإيراني.
يقول بيتر هاسلر مراسل "نيويوركر" في القاهرة بين العامين 2011 و2016 في كتاب جديد تحت عنوان "المدفون: أركيولوجيا الثورة المصرية" أن "سلطوية غير بنيوية أخطر من سلطوية بنيوية". والثورة الشعبية السلمية من أجل التغيير في لبنان تواجه نوعاً من "سلطوية غير بنيوية" في ثياب ديمقراطية وثياب "مقاومة". وأهم ما في الثورة أنها أطلقت "طاقات" كامنة في شعب أريد له أن يبقى إلى الأبد أسير العصبيات الطائفية والمذهبية. طاقات تتخطى الطوائف والمذاهب وعصبياتها ومصالح أمراء الطوائف إلى بناء دولة مواطنين، لا دولة رعايا.
والواقع أن لبنان كان ولا يزال مدرسة سياسية ومرصداً للأفكار ومختبراً للصراعات في المنطقة. كان مدرسة لتعليم مادة الطائفية التي تكاثر طلابها العرب، وخصوصاً بعد قيام ثورة الخميني في إيران وتوظيف العصبية المذهبية في مد النفوذ الإقليمي لطهران. أما بعد الثورة الشعبية، فإن المدرسة اللبنانية تعلم مادة الديمقراطية ومادة الدولة المدنية. أليس هذا ما يطالب به الثوار في العراق اليوم، وهم يواجهون العنف الذي قتل المئات وجرح الآلاف والاتهامات الإيرانية بـ "التآمر" مع أميركا؟ أليس هذا ما يجب أن تنتهي إليه التسوية السياسية في سوريا واليمن وليبيا والسودان والجزائر؟
اتفاق الطائف فتح مخرجاً لتخطي النظام على مراحل نحو دولة مدنية من خلال تجاوز الطائفية السياسية. والدولة المدنية هي التعبير البديل من النظام العلماني الذي يثير حساسيات معينة لدى أكثر من فريق. لكن الممارسة بعد الطائف قادت إلى المخرج المعاكس: الانتقال من الطائفية إلى المذهبية. والامتحان واضح: كل مسؤول يقول للبنانيين إن هدفه الوصول إلى دولة مدنية أمامه حليف موثوق هو الثورة الشعبية السلمية. وكل رهان على تحالف مع قوى وأحزاب وتيارات طائفية أو دينية هو وصفة لجعل النظام أكثر طائفية ومذهبية. وهذا ما يضمن لأمراء الطوائف النفوذ والاستمرارية والحصص في المال والسلطة. ولو كنا في دولة مدنية لما رأينا على المسرح السياسي كل هذه التركيبة الحاكمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق