بقلم : أحمد بن محمد العيسى
لابد من الإشارة إلى أن المجتمع الأمريكي - على عكس ما يظنه بعض المحللين - هو مجتمع ديناميكي معقد يعمل في المجال السياسي مئات من المنظمات والجمعيات والهيئات التي تمثل توجهات سياسية عامة أو توجهات اثنية وعرقيات وأديان ومذاهب شتى.
لم تثبت نتائج الانتخابات الأمريكية الأخيرة تربع الحزب الجمهوري على الأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب فحسب، بل أثبتت تمكن اليمين المحافظ من السيطرة على السلطة التشريعية بعد أن سيطر على السلطة التنفيذية في الإدارة الأمريكية الحالية وتوجيهها وفق توجهات ومبادئ واستراتيجية هذا التيار الذي يتوقع أن يفرض رؤاه لسنوات قادمة لدور الولايات المتحدة في عالم القطب الواحد وكيفية إدارة الصراع في النظام العالمي الجديد. وعلى الرغم من أن الانقسام داخل الحكومات الأمريكية المتعاقبة خلال الخمسين عاماً الماضية لم يظهر على السطح مثلما هو حاصل الآن داخل الحكومة الأمريكية الحالية، حيث أصبح من المسلّم به لدى المحللين السياسيين وجود خلاف حقيقي في مواقف وزارة الخارجية الأمريكية وبين صقور الإدارة الأمريكية في وزارة الدفاع ومجلس الأمن القومي، إلا أن هذا الانقسام يوضح مدى الشراسة التي يبديها اليمين المحافظ لفرض رؤيته وسياساته على توجهات الحكومة الأمريكية والاستفادة من الفرصة التاريخية التي سنحت له بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتوجيه السياسة الأمريكية نحو الأهداف والاستراتيجيات التي يبشر بها هذا التيار.
ولكن السؤال هو كيف نجح اليمين المحافظ في الوصول الى مواقع السلطة التنفيذية والتشريعية في قلعة الديمقراطية والليبرالية والرأسمالية الحديثة و"العالم الحر"؟ وما هي آفاق المستقبل لهذا التيار وهل سيتمكن من الاستمرار في هذه النجاحات، وبذلك يقود العالم إلى صراع حضاري واضطرابات اقتصادية ومواجهات عسكرية عنيفة تهدم ما تبقى من نظام عالمي وتوازنات إقليمية ودولية قامت بعد الحرب العالمية الثانية؟
هذه أسئلة مهمة نطرحها في هذا المقال لمحاولة التعرف على العوامل التي ساعدت على نجاح هذا التيار وكيف تمكن من الاستحواذ على السياسة الخارجية الأمريكية؟ ومن خلال فهم هذه الخلفية نحاول في مقال آخر الحديث عن أبرز التوجهات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي يتبناها اليمين المحافظ من خلال أطروحاته التي تصدر في تقارير ودراسات أبرز مراكز البحث والدراسات التي تنتمي لهذا التيار.
في بداية الحديث لابد من الإشارة إلى أن المجتمع الأمريكي - على عكس ما يظنه بعض المحللين - هو مجتمع ديناميكي معقد يعمل في المجال السياسي مئات من المنظمات والجمعيات والهيئات التي تمثل توجهات سياسية عامة أو توجهات اثنية وعرقيات وأديان ومذاهب شتى. هذه المنظمات والهيئات لها وسائلها الإعلامية وواجباتها العلمية وممثلوها في المجالس التشريعية في الولايات وفي مجالس التعليم والبلديات وعلى المستوى الفيدرالي في المؤسسات التشريعية والقضائية وغيرها. ولهذا فإن رسم صورة الواقع السياسي والاجتماعي في الولايات المتحدة لابد أن تكون أعمق من النظرة السطحية لثنائية الديمقراطيين والجمهوريين، أو الليبراليين والمحافظين، أو اليمين واليسار، أو القوى الدينية والقوى العلمانية، لأن المتغيرات كثيرة والتحالفات تكاد تعصف بالقوى والمؤسسات التقليدية داخل المجتمع والتي حفظت التوازن لفترات طويلة.
من هذا المنطلق لا يمكن أن نسلم بأن صعود ما يسمى باليمين المحافظ وسيطرته على توجهات الإدارة الأمريكية الحالية وسياساتها الداخلية والخارجية سيكون حاسماً ومستمراً لفترة طويلة من الزمن. إذ نتوقع أن هذا الوضع سيحفز القوى الليبرالية والديمقراطية لإعادة تنظيم نفسها والبحث عن دور جديد في ظل شعارات ورؤى جديدة تستطيع من خلالها مزاحمة التيار اليميني المحافظ في صناديق الاقتراع.
لم يتمكن اليمين المحافظ من الصعود في الساحة السياسية الأمريكية من خلال واجهاته السياسية والإعلامية وقاعدته الدينية الأصولية البروتستانتية إلا بعد جهد كبير وعمل دؤوب استمر لعقود من الزمن في كافة الأصعدة السياسية والاجتماعية.. على المستوى المحلي في الكنائس والمدارس الخاصة والجامعات ووسائل الإعلام وعلى المستوى الفيدرالي في مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية وفي لجان الكونجرس ومنظمات اللوبي المنتشرة في العاصمة الأمريكية. لقد كانت الرسالة الأولى لليمين المحافظ هي وقف الانحدار الأخلاقي في المجتمع الأمريكي الذي تفشى بسبب سيطرة القوى الليبرالية التي تنزع إلى تعظيم الحرية الشخصية لعقود على وسائل الإعلام والصحافة وشركات إنتاج الأفلام السينمائية والبرامج التلفزيونية وغيرها.
لقد بدأت الأصولية البروتستانتية نشاطها السياسي والتنظيمي منذ وقت مبكر في نهاية القرن التاسع عشر، ولكنها تعرضت لنكسة كبيرة خلال الفترة من عام 1920م إلى 1925م بسبب الانقسام الحاد الذي حصل في المنظمات الكنسية البروتستانتية بين الليبراليين من القساوسة وبين غلاة المحافظين. تقول الباحثة نانسي أميرمان في بحثها عن الأصولية البروتستانتية ضمن مشروع مراقبة الأصولية Fundamentalism Observed الذي صدر عن الأكاديمية الأمريكية للآداب والعلوم عام 1991م: "لقد كانت قصة الفترة التي تلت عام 1925هي قصة إعادة التنظيم، ولكنها أيضاً قصة تحول شامل. فحتى عام 1925كان الأصوليون يرون أنفسهم كمصلحين للحضارة المسيحية وللدينة الأرثذوكسية.. لقد تصوروا أن البلاد يستحقون أن يحكموها وأنها الآن محتلة مؤقتاً من أناس أجانب.. إنهم المحافظون الحقيقيون للثقافة المسيحية، ولكنهم بعد ذلك العام وجدوا بألم أنه لا الديانة التي يعتقدها غالبية الناس ولا الثقافة الحقيقية للشعب الأمريكي تعترف بهم بالولاية.. لقد أصبحوا هم منذ ذلك الوقت الأجانب outsiders داخل المجتمع الأمريكي".
ولكن مع ذلك استمر العمل الدؤوب من قبل الأصوليين المسيحيين ضمن مؤسساتهم الكنسية، وبدأت المؤشرات الأولى لصعود نجمهم مرة أخرى في نهاية السبعينات عندما انتشرت في الولايات المتحدة ظاهرة الكنيسة المرئية والتي استفادت من تطور تقنية القنوات التلفزيونية التي أصبحت الوسيلة الإعلامية الأولى في الولايات المتحدة، فظهر عدد من القساوسة الوعاظ في برامج وعظ كنسية مؤثرة يشاهدها ملايين الأمريكيين في كل أسبوع وفي المناسبات الدينية المختلفة، من هؤلاء القساوسة جيري فولويل الذي أسس في عام 1979م جمعيته (الأغلبية الأخلاقية) Moral Majority والذي قال إن الناس الذين يشعرون بالقلق لانحدار الأخلاق والقيم الأمريكية هم أغلبية وينتظرون الفرصة لتنظيمهم وتعبئتهم. وخلال عقد الثمانينات قام بتنفيذ هذه المهمة فتم تسجيل الأصوات المحافظة في القوائم الانتخابية، وتم تنظيم المسيرات الضخمة، وتم انتخاب المشرعين المحافظين بكثافة. ومن هؤلاء القساوسة بات روبرتسون الذي يرأس حالياً منظمة (التحاف المسيحي) Christian Coalition التي أنشئت عام 1989ولها أكثر من 1700فرع في الولايات الخمسين وتضم أكثر من مليون وسبعمائة ألف عضو وتنظم في كل عام مجموعة مؤتمرات وطنية باسم الطريق الى الانتصار Road to Victory، ومن زعماء هذا التيار جورج اوتيس الذي أسس منظمة المغامرة الكبرى High Adventure Ministry والذي كان صديقاً حميماً للرئيس ريغان قبل وبعد فترة رئاسته للدولة، وهناك عشرات الأسماء من القساوسة الخطباء مثل مايك ايفانز وبيلي غراهام وغيرهم كثير.
ولكن على الرغم من أن هذه الجهود الأصولية المسيحية تعرضت لعدة انتكاسات كان أبرزها تعرض عدد من زعماء الكنيسة المرئية لفضائح مالية وجنسية مما أثر في مصداقيتها، إلا أن هذا التيار قد تغلغل في المؤسسات الفكرية والبحثية التي تقدم التصورات والرؤى الاستراتيجية للولايات المتحدة إضافة إلى تشكيل عدد من جماعات الضغط السياسية للعمل مباشرة في الكونجرس والبيت الأبيض والمؤسسات الحكومية الأخرى. ويبرز من مؤسسات الفكر الاستراتيجي وجماعات الضغط السياسية التي تمثل اليمين المحافظ، معهد المبادرات الأمريكية American Enterprise Institute ولجنة الخطر الحاضر Committee on the Present Danger والتجمع المحافظ The Conservative Caucus ومؤسسة الكونجرس الحر Free Congress Foundation ومجلس الأمن الداخلي Council for Inter American Security والتحالف من أجل القيم التقليدية Traditional Values Coalition. هذه المؤسسات تسعى لاستقطاب التبرعات وتنظيم المؤتمرات ودعم المرشحين في الانتخابات وبث الدعاية السياسية من خلال برامج الحوار التلفزيوني وبرامج الأحاديث الإذاعية.
ونظراً لأن الحزب الجمهوري في عقيدته الأساسية يمثل تيار القوى اليمينية المحافظة، فقد وجد عدد من مرشحي الحزب للرئاسة الأمريكية ومنهم الرئيس ريغان وبوش الأب وبوش الابن في القوى الأصولية المسيحية دوائر انتخابية هامة فقاموا بالتحدث في مسيراتهم ودعوتهم لحضور المناسبات في البيت الأبيض، وأصبحت القوى المحافظة جزءا أساسيا في القواعد الانتخابية للحزب الجمهوري وبرامجهم وشعاراتهم هي الأساس في أجندة الحزب وفي أطروحاته السياسية والاقتصادية..
لم تكن تلك الأطروحات لتكسب مزيدا من التأييد داخل المجتمع الأمريكي الذي يعتز بحريته وديمقراطيته ونزعته في تقليص دور الحكومة الفيدرالية في حياته العامة، إلا في الأوقات التي يكون هناك تحد حقيقي للحضارة الأمريكية أو تهديد خارجي يواجه قوة الولايات المتحدة ومصالحها العالمية. ولهذا نجح الرئيس ريغان في رئاسته الأولى لأنه برز في ذروة أزمة الرهائن في السفارة الأمريكية في طهران والتي ظهر فيها الرئيس كارتر بموقف الضعيف بعد محاولة تحرير الرهائن الفاشلة. ونجد أن الشعب الأمريكي عاد الى انتخاب الرئيس كلينتون الديمقراطي بعد أن تحقق الانتصار في حرب الخليج الثانية وتلاشى الخطر على المصالح الأمريكية في الخليج. وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتي مثلت أكبر ضربة تهدد الأمن القومي الأمريكي في العصر الحديث وجد اليمين المحافظ فرصته في دفع المجتمع إلى الاتحاد خلف شعار (محاربة الإرهاب) والتضحية بالمبادئ والقيم الليبرالية التي تمثل أساس المجتمع المدني في الولايات المتحدة. تقول الباحثة نانسي أميرمان في نهاية بحثها القيم: "إن الأصولية تكون أكثر نشاطاً وأكثر ظهوراً في الحياة الثقافية في الأوقات التي تعقب الأحداث الكبيرة التي تحدث عدم الاستقرار الثقافي.. ومن خلال المزج بين التعبئة الشخصية والسياسية تظهر قوتهم بناء على درجة التهديد الذي يشعر به الأصوليون واحتمالية المواجهة الثقافية، وأيضاً بناء على مدى قوة الإمكانات التنظيمية للأصوليين.. ولكن مع ذلك ما يمكنهم إنجازه على المستوى الثقافي العام يكون محدوداً لافتراضية التعددية في مجال الثقافة والقانون في مجتمع الولايات المتحدة وكندا. إنهم يستطيعون تقديم رؤيتهم للمجتمع الجيد ويطالبون بسماع تلك الرؤية، وخلال بعض الفترات التاريخية تكون رسالتهم قد تم تبنيها من قبل عدد كبير من الأتباع، ولكنهم لا يستطيعون فرض طريقتهم في الحياة دون موافقة من الناخبين".
amaleisa@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق