ترفع الأجواء الإيجابية التي تنتشر بعد اللقاء الثاني، الذي عقده حنّا ناصر مع حركة حماس وبقية الفصائل في غزة، سقف التوقعات حول إمكانية إجراء الانتخابات، ما يجعل خيبة الأمل إذا لم تُعقد كبيرة بحجم هذه التوقعات الكبيرة.
سأضع جانبًا في هذا المقال جميع العراقيل الداخلية، وهي لا تزال كثيرة وكبيرة، وتلك التي يضعها المجتمع الدولي والولايات المتحدة، وكذلك التي يضعها الاحتلال، وهي أكبر من كل ما سبق، وأكبر من مجرد عدم السماح بإجراء الانتخابات في القدس، وقد تصل إلى درجة التأثير على كل مراحل الانتخابات، والتحكم في نتائجها، وربما تصل إلى إفشال عقدها.
سأفترض جدلًا بأن الانتخابات ستعقد في الضفة الغربية وقطاع غزة، في الموعد الذي يحدده المرسوم الرئاسي، ولنقل في شهر شباط القادم .ولنعتبر أن تكون النتائج وفق أحد الاحتمالات الآتية:
الاحتمال الأول: أن تكون النتائج مشابهة لما حصل في الانتخابات السابقة، أي تحصل "حماس" على الأغلبية، ومن حقها في هذه الحالة أن تحكم وحدها جريًا على القول الشائع والخطير والمرفوض بأن الفائز يشيل كل شيء، أو أن تقيم ائتلافًا حكوميًا برئاستها. فهل سيسلم الرئيس وحركة فتح ومراكز القوى والمصالح بهذه النتيجة، أم ستنقلب عليها؟ وإذا سلمت بها جدلًا، فهل ستسلم إسرائيل بهذه النتيجة وتدع "حماس" تحكم السلطة القائمة في الضفة والقطاع، وهي تتحالف مع إيران وحزب الله، ولا تزال ترفع شعار المقاومة لتحرير فلسطين، وترفض الاعتراف بإسرائيل وبقية الالتزامات الفلسطينية في اتفاق أوسلو؟
إنّ الأقرب للتوقع، ولما يمكن أن يحصل، أن ترفض السلطة في الضفة، فعليًا، تسليم السلطة لحماس، ولديها ذرائع جاهزة، مثل الانقلاب والارتهان لمحاور خارجية. أما إسرائيل فستعتقل النواب الفائزين لمنع "حماس" من الحكم، تمامًا مثلما فعلت في العام 2006.
هذا إذا لم نشهد خطوات استباقية لمنع هذا الاحتمال من الحدوث، مثل تصاعد الاعتقالات، والضغوط لمنع الترشح، وانتهاكات حقوق الإنسان، والتحريض المتبادل، والتخوين والتكفير واحتكار الحقيقة والوطنية والدين، وربما تصل الأمور إلى عدم الاعتراف بنتائج الانتخابات أو الاستعداد مسبقًا لتزويرها. ولمن يعتقد إن التزوير مستحيل نظرًا للرقابة العربية والدولية، وتوقيع ميثاق شرف ... إلخ، فإنه لا يعرف مجريات العملية الانتخابية، و"الإبداع" في التلاعب بها، في ظل تداعيات الانقسام على الانتخابات مع وجود أجهزة أمنية هنا تخضع لهذا الطرف، وأخرى هناك تخضع للطرف الآخر. فلا توجد حكومة واحدة تشرف على إجراء الانتخابات وإنما هناك "حكومتان".
الاحتمال الثاني: أن تأتي نتيجة الانتخابات لصالح حركة فتح، فهل ستقوم "حماس" بكل أريحية بتسليم السلطة في غزة والتخلي عن كل مصادر القوة والمصالح والمناصب، و"أن تخرج من المولد بلا حمص". وفي هذه الحالة، ما مصير سلاح المقاومة، وهل ستفرض وتطبق السلطة شعاراتها حول سلطة واحدة وسلاح واحد، وما الذي يمكن أن يحدث في هذه الحالة؟
من دون شك، سيحدث صدام يمكن أن يؤدي إلى اقتتال شديد، وسنشهد نوعًا من ازدواج السلطة وتكريس الانقسام، هذا مع إمكانية إعلان "حماس" عدم اعترافها بالنتائج وتطعن بها، أو تقوم سلفًا بتزويرها.
الاحتمال الثالث: أن تأتي النتيجة وفق ما جاء في الاستطلاع الأخير في منتصف أيلول/ سبتمبر الماضي الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث والدراسات المسحية، إذ توقع أن تحصل حركة فتح في الانتخابات القادمة على 38% وحركة حماس على 29%، وبقية الفصائل على 11%، في حين لم تقرر نسبة 22% بعد لمن ستصوت.
وجاء في الاستطلاع أنه إذا جرت انتخابات رئاسية فسيحصل الرئيس محمود عباس على 48% وإسماعيل هنية على 46%، أي أن الفرق بينهما لا يتجاوز نسبة الخطأ. وكذلك قالت نسبة 61% إنها تريد من الرئيس الاستقالة من منصبه. أي لا توجد أغلبية واضحة لصالح طرف، إذ ستتغلب "فتح" على "حماس" في التشريعي، ويتعادل عباس وهنية في انتخابات الرئاسة، وهذا إن تحقق سيبقى الوضع في أحسن الأحوال على حاله، بحيث يتشرعن الانقسام.
الاحتمال الرابع: أن تأتي نتائج الانتخابات بمفاجآت، مثل تشكيل كتل جديدة تراهن على غضب الشعب من المآل الذي أوصلت السلطتان الوضع إليه، وفوز هذه الكتل بنسبة معقولة، على غرار ما جرى في تونس، ولكنها لن تكون موحدة، ولن تحصل على الأغلبية بحيث تكسر بشكل حاسم الاستقطاب الثنائي الحاد، وفي هذه الحالة لن تتغير الأمور جوهريًا، وستبقى مصادر القوة متنوعة ومتوزعة بين السلطتين، أما الكتلة الجديدة فستنحاز أو تتوزع أو ستضيع بينهما.
الاحتمال الخامس: تشكيل قائمة موحدة تضم مرشحي حركتي فتح وحماس ومن يرغب من الفصائل، وفق الاقتراح الذي تبناه الرئيس، وتردد مرارًا وتكرارًا منذ العام 2016، ويتضمن ترك مقاعد لمن لا يرغب في المشاركة في القائمة المشتركة. وهذا الاحتمال مستبعد، وإذا تحقق من دون اتفاق شامل، فستكون الانتخابات أقرب إلى التزكية، وستجسّد الواقع الحالي القائم على توزيع الحصص واستمرار الانقسام.
وهنا لا بد من الإشارة إلى وجود إمكانية لمشاركة تيار محمد دحلان في الانتخابات بقائمة منفصلة، أو بالتحالف مع "حماس" أو غيرها، وهذا ستأخذه "فتح" جديًا بالحسبان، في حال جرت الانتخابات.
هل الصورة قاتمة إلى هذا الحد ولا يوجد مخرج؟ لا بالتأكيد هناك حل، ويقوم على ما يأتي:
القناعة الراسخة بأن إنهاء الانقسام وتوحيد المؤسسات وإنهاء هيمنة الرئيس و"فتح" على السلطة والمنظمة وسيطرة "حماس" الانفرادية على غزة، هو المدخل الطبيعي لإجراء انتخابات حرة ونزيهة وتحترم نتائجها، ولكي تكون أداة من أدوات الشعب الفلسطيني للانتصار في معركته الكبرى في مواجهة الاحتلال.
وإذا لم يكن ذلك ممكنًا، وهو كذلك في المدى المباشر، ما دامت الممارسة للقيادة والقوى الأساسية كما هي عليه، فيمكن في الحد الأدنى أن تكون الانتخابات ضمن رزمة شاملة تستند إلى توازن المبادئ والمصالح، وتتضمن الاتفاق على البرنامج السياسي (برنامج الحد الأدنى)، وأسس الشراكة، وتوفير ضمانات لحرية الانتخابات ونزاهتها واحترام نتائجها.
ما سبق لا يعني انتظار توفير ضمانات من الاحتلال، وإنما إنجاز توافق وطني يناضل لإزالة عقبة رفض الاحتلال، ويقوم على أن فلسطين تمر بمرحلة تحرر وطني، وأن أوسلو فشل، ولا بد من العمل على الخروج منه والتخلص من التزاماته، وأن مبدأ تداول السلطة لا ينطبق على السلطة الفلسطينية، وإنما قواعد العمل الجبهوي التي تفرض أن تكون الحكومة التي ستشكل بعد الانتخابات حكومة وحدة تضم مختلف القوى بغض النظر عن الفائز وفق مبدأ الديمقراطية التوافقية، وتتضمن الاتفاق المسبق على إقرار قانون في أول جلسة للمجلس التشريعي المنتخب يجيز لأي كتلة في المجلس أن تعين بدلًا من النائب الذي يمكن أن يتعرض للاعتقال من قوات الاحتلال، أو يجيز للنائب المعتقل أن يوكل شخصًا عنه ما دام وراء القضبان.
في هذه الحالة ستتجسد الشراكة، وسيخرج الجميع منتصرًا، وسيقتصر الخلاف على حجم التمثيل الذي سيستند إلى عدد المقاعد التي سيحصل عليها كل طرف، ويمكن الاتفاق على سلاح المقاومة على قاعدة الاعتراف بالوضع الخاص للقطاع بعد أن أخذ الاحتلال شكلًا مختلفًا جوهريًا عن الاحتلال المباشر في الضفة، ما يتيح أن يكون هناك سلاح للمقاومة يستخدم ضمن قرار وطني لا فصائلي، بحيث يمكن أن ينظم من خلال تشكيل جيش وطني، أو تشكيل مرجعية وطنية عليا للمقاومة، كما ورد في وثيقة الأسرى، تكون خاضعة للإستراتيجية والقيادة الموحدة.
إن انتخابات حرة ونزيهة وتحترم نتائجها من دون حد أدنى من التوافق الوطني لن تجري تحت الاحتلال وفي ظل الانقسام، وإذا جرت ستكرس واقع وجود السلطتين المتنازعتين، اللتين ستحصلان في هذه الحالة على الشرعية الشعبية، وهذا سيعطي الانقسام شرعية افتقدها منذ البداية.
التوافق على حد أدنى، سياسي وقانوني وأمني وإداري، قادر على إنهاء الانقسام؛ هو شرط ضروري لإجراء انتخابات حرة ونزيهة وتحترم نتائجها، وإذا تعذر إجراؤها لأسباب خارجية إلى حين، يمكن أن يكون التوافق الذي يتضمن الحقوق والأهداف والكفاح لتحقيقها مصدر الشرعية إلى حين إجراء الانتخابات.
المخرج المطروح آنفًا بحاجة إما إلى إرادة من فوق، وهي غير متوفرة، بدليل الجولات المكوكية لحنا ناصر التي لا تكفي بديلًا من الإرادة المطلوبة التي يجسدها لقاء وطني يجمع مختلف القوى والفعاليات على أعلى مستوى؛ أو هبة شعبية مفاجئة؛ أو ضغط شعبي وسياسي متعاظم قادر على فرض إرادة الشعب، وهذا بحاجة إلى وقت، ولكن لا بديل عن توفره بأسرع وقت ممكن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق