خرطوم الثالثة فجراً لنا وحدنا. لدقائق في عتمة الطريق من المطار إلى الفندق لا أحد يشاطرنا إياها. هواء العاصمة طازج، ينبض بطاقة كونية، هي طاقة البدايات.
شرف من نوع خاص أن يشم المرء بنفسه نسائم عهد جديد. تنشّقتُ تلك الرائحة لما زرت القاهرة في مارس ٢٠١١. وقُدر لي أن أتنسمها من جديد في الخرطوم في سبتمبر ٢٠١٩.
بعد غفوة لم تطل بما يكفي لحلم أو رؤيا وصلنا مقر رئاسة الوزراء. فريق الدكتور حمدوك جديد كحُزمة سلّمها للتو ساعي البريد، ولمّا يُنزع الغلاف عنها تماماً بعد. تشكيلة طازجة، عناصرها لا يزالون يتعرفون على بعضهم البعض. منهم من أتى به رئيس الوزراء الجديد ومنهم من يخبر المبنى منذ سنين. طبيعة العلاقة بينهم لا تزال تتبلور، وقد شاءت الأقدار أن نكون شاهدين على لحظة المخاض.
"وزيرة الخارجية في اجتماع خارج الوزارة"، هكذا قيل لنا لما وصلنا لثاني لقاءاتنا. لكننا لا نحتجّ ولا حتى داخلياً، فاستقبال فريقها دافئ، وقهوة الوزارة بنكهة السودان ذاته، وحديثنا شجي عن الإعلام، والسودان، ومصر، وعودة إذاعتنا على موجات إف إم الخرطوم بالتزامن مع زيارتنا - صدفة تاريخية - بعد غياب طال. ثم إن النيل الأزرق من نافذة الوزارة لا يشبه أي شيء أبصرته عيوننا من قبل، وبعد شيء من التردد قاومنا الخجل ورحنا نلتقط الصورة تلو الأخرى غير عابئين بظهورنا في مظهر السياح المشدوهين.
ثالث لقاءاتنا في القصر الجمهوري، حيث نبلَّغ رسمياً بأنه لا يمكننا الاستعانة بعلم الجمهورية في الكادر، ولا يسمح لنا بوضعه خلف مقعد الضيفة كما نريد، لأن هذا العلم بتصميمه الفريد هو للرئيس فقط.
طيب لا رئيس الآن، ألا يمثل المجلس السيادي - وضيفتنا من أعضائه - رئاسة السودان؟ مسئول البروتوكول في القصر مهذب لكنه حاسم. يكرر مبتسماً: "هذا العلم فقط للرئيس".
مجلس السودان السيادي يضم مدنيين وعسكريين. ضيفتنا من عناصره المدنية، وعلى هذا الأساس أبني في ذهني سير الحوار. نتصافح، نسلم نفسينا للطاقم الفني، يجلسوننا، يركبون المايكروفونات، يعدلون مقعدينا، نعلّق على الحرّ، ثوانٍ ونبدأ.
يدخل القاعة عميد في الجيش. بدلة عسكرية كاملة، ونظارات سوداء، وعصا تحت الإبط. يسلم على الضيفة من بعيد ثم يختار مقعداً ورائي. ينهض العميد من مقعده، يخطو نحونا ويوجه لي الحديث مطالباً بالالتزام بمحاور اللقاء. يقولها ثم يعود ليجلس. لن أراه إلا لو استدرت، لكن ضيفتي تراه جيداً وطول الوقت. في نهاية الحوار ينهض كما ننهض نحن، وينضم إلينا في الصورة الجماعية.
قبيل رحيلنا شُرّعت نافذة من ساعات معدودة لنطلَّ حقاً على البلد الذي استضاف أسرة أمي في ثلاثينيات القرن الماضي لتسع سنوات - لم تنسها أبداً - من طفولتها. وفي سوق أم درمان كانت في وداعنا نسائم البخور، وعبير الحنة، وشذا الشمر والشمار والقرفة والقهوة، بدوري أقول شكراً للسودان، وأمنياتي القلبية بالتوفيق فيما هو آتٍ.
برنامج بلا قيود يبث يوم الأحد الساعة الخامسة والنصف مساء بتوقيت غرينتش.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق