نديم قطيش
إذا كانت إسرائيل شراً مطلقاً وعدواناً مطلقاً، فلماذا لم يمنح الإسرائيليون بنيامين نتنياهو، خلال دورتين انتخابيتين في 6 أشهر، سدة الحكم، وهو الأكثر شراً والأكثر عدوانية بين سابقيه؟
لماذا لم يكافئ الناخب الإسرائيلي الرجل الذي سبق كل أسلافه في قوننة «يهودية دولة إسرائيل»، خلافاً للنصوص المؤسسة للدولة منذ عام 1948؟ لماذا لم يكافئ الناخب الإسرائيلي نتنياهو، الذي بحكم علاقاته بإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، نال اعترافاً أميركياً بالقدس عاصمة لإسرائيل، نُقلت على أساسه السفارة الأميركية إلى القدس؟ لماذا لم يكافئ من أعلن ضم الجولان، ومن أعلن ضم الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية، ووعد قبل دورة الانتخابات الأخيرة بضم كامل غور الأردن إلى دولة إسرائيل؟
لماذا لم ينجح «الساحر» - كما يسميه مريدوه في حزب الليكود - في كسب ثقة الإسرائيليين عامة؛ بل تراجع إقبال قاعدته الانتخابية، ما أدى إلى خسارته بضعة مقاعد كان ربحها في مارس (آذار) الفائت، قبل أن يحل الكنيست نفسه، ويذهب الإسرائيليون إلى انتخابات جديدة، بعد فشل «الساحر» في تأمين ائتلاف حكومي يحظى بنيل ثقة البرلمان؟
حين فاز نتنياهو في انتخابات مارس، كتب المؤرخ الإسرائيلي اليساري آفي شلايم في «نيويورك تايمز» نعياً لإسرائيل كما فهمها الآباء المؤسسون، أكانوا في اليمين الجابوتنسكي أو اليسار البنغوريوني. واعتبر أن فوز نتنياهو هو انتصار لأقصى يمين الحركة التصحيحية الصهيونية في رؤيتها لإسرائيل الكبرى. لم تصمد هذه السوداوية أكثر من ستة أشهر، وبدأ الحديث عن نهاية حقبة نتنياهو الأطول في تاريخ رؤساء حكومات إسرائيل.
الحقيقة أن فائض الخطاب الآيديولوجي الذي حاول نتنياهو أن يملأ به الفضاء الانتخابي، لم ينجح في تغييب مسألة في غاية الحساسية بالنسبة للناخب الإسرائيلي، وهي خضوع نتنياهو للتحقيق في قضية فساد يُرجح أن تنتهي بإدانته.
وقد ذهب نتنياهو بعيداً في محاولته الحصول على قانون يحصنه في مواجهة انعكاسات الإدانة على مستقبله السياسي، كما سعى لتعديل قانون المحكمة العليا باتجاه يُخضعها لوصاية البرلمان؛ بحيث يسمح لنفسه بمراوغة الأحكام وتفادي انعكاساتها السياسية عليه.
إنه لمن المثير حقاً، أن يحيد الناخب الإسرائيلي كل إنجازات نتنياهو بالمعنى الإسرائيلي الوجودي والعقائدي، لصالح أولوية دولتية تتصل بحكم القانون. كأنه يقول: لا يهم اتساع رقعة الدولة ما دامت ليست مكاناً لحكم القانون، كما لا يهم التواضع الآيديولوجي بشأن الأرض، ما دامت أرضاً تجمع بين الصفتين اليهودية والديمقراطية. كان الموقف الأبرز في هذا السياق لأبرز شخصيات حزب الليكود بيني بيغن، نجل مناحم بيغن، رئيس الحكومة الإسرائيلي الراحل، وأحد القادة التاريخيين لليمين الإسرائيلي. رفض بيغن الابن التصويت لنتنياهو، لأسباب تتعلق بالفساد، وبالموقف العنصري من الناخبين الإسرائيليين العرب.
غير أن رسائل الانتخابات الإسرائيلية ليست كلها وردية، إنْ كان لجهة انتصار الديمقراطية في إسرائيل في مواجهة العنصرية، أو إنْ كان بشكل أكثر خصوصية ما يعني القضايا المتصلة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
الديمقراطيات ملولة، وهذا واحد من الأسباب التي سهلت على الناخب الإسرائيلي فكرة تغيير نتنياهو، أو قللت من حماسة منحه فترة رئاسية جديدة بعد 13 سنة له في رئاسة الحكومة، منها 10 سنوات متصلة، منذ 2009.
كما أن الناخب الإسرائيلي، على الرغم من فظاظة وكثافة الخطاب الآيديولوجي لنتنياهو، لم يشعر في العمق بأن ثمة تغييراً كبيراً سيطر على الواقع السياسي الإسرائيلي في الملفات الأساسية. فإسرائيل ومنذ اغتيال إسحق رابين على يد اليهودي المتطرف يغال أمير، ثم الانتفاضة الثانية عام 2000، وهي تتطور سياسياً باتجاه اليمين، إلى حد لم ينجح الحزب المؤسس لإسرائيل (حزب العمل) في الحصول على أكثر من ستة مقاعد في الانتخابات الأخيرة.
كما أن بيني غانتس، زعيم حزب الوسط (أزرق أبيض)، قد احتفظ لنفسه خلال الحملة الانتخابية بدرجة عالية من الغموض حيال الموقف من القضايا الرئيسية، ولم يغامر بمواقف معاكسة بشدة لسياسات نتنياهو التي تتسم بالقوة والصلابة. حقيقة الانطباع عن غانتس أنه يشارك نتنياهو نظرته للمسألة الفلسطينية، من زاوية قناعته بأن لا شريك فلسطينياً جدياً للسلام، كما يشاركه هواجسه بشأن الشق السياسي غير المعلن حتى الآن، مما تسميه إدارة ترمب «صفقة القرن». وهو بوصفه عسكرياً ليس بعيداً عن سياسات نتنياهو الأمنية والعسكرية تجاه إيران، في سوريا والعراق ولبنان وفي إيران نفسها، ولا يختلف معه في الموقف من أولوية الهاجس النووي والصاروخي الإيراني.
قد يبدو للوهلة الأولى أن صراعات اليمين الإسرائيلي قد نجحت في إنقاذ الديمقراطية الإسرائيلية؛ لكنه نجاح هش في ضوء توزيع الأصوات، وحاجة بيني غانتس لحكومة وحدة وطنية قادرة على حيازة ثقة الكنيست، دعك عن أن بين شخصيات «أزرق أبيض» ليكوديين سابقين، تحركهم أجندة إنهاء نتنياهو أكثر مما تحركهم أجندات يسارية أو وسطية تقليدية.
ما يعنيه ذلك، أن إسرائيل، فيما لو خرج نتنياهو من لعبة الحكم والسياسة، لا تزال أسيرة أجندة اليمين الإسرائيلي بنسخه الأكثر تطرفاً من نتنياهو، وعرَّاب هذه الموجة اليهودي القومي أفيغدور ليبرمان، زعيم حزب «إسرائيل بيتنا».
ما يعنينا أن ثمة ناخباً إسرائيلياً قرر بشجاعة، أن حكم القانون أرفع مقاماً من الآيديولوجيا، مستفيداً من كل تناقضات الواقع السياسي الإسرائيلي. إنه درس في الديمقراطية، بصرف النظر عن جلافة السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، ودرس في كيفية النظر إلى إسرائيل أبعد من خطاب السبعينات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق