فرنسا و"الإسلام السياسي" في حرب.
هذه الحرب ليست مجازية أبدا، بل هي مكتملة العناصر. لها جنودها، أسلحتها، عقائدها ودعايتها.
فرنسا تأخذ شرعية هذه الحرب من وجوب التصدّي، بكل الوسائل المشروعة، للعمليات الإرهابية التي تستهدفها، فيما "الإسلام السياسي"، يجد في الدفاع الفرنسي عن حق نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد، ضالته.
وكما أنّ "الإسلام السياسي" لن يتنازل عن شعار منع الإساءة للنبي، كذلك فرنسا العلمانية لن تتنازل عن حماية "حق التجديف".
في هذه الحرب، يجد عموم المسلمين أنفسهم في مأزق: غالبيتهم يعلنون وقوفهم ضد "الإسلام السياسي"، ولكنّهم، في الوقت نفسه، يستحيل أن يرضوا عن الإساءة للنبي محمد.
ولا يبدو أنّ هناك حلولا وسطى تسمح بالتوصّل إلى تسوية، فالمسألة الدينية لها، هنا، أبعاد سياسية.
بالنسبة للإدارة الفرنسية أي تنازل لما تسميه "الإسلامية"، في إشارة إلى "الإسلام السياسي" سوف يجر تنازلات جديدة، فالاعتراض اليوم على "حق التجديف" سيصبح، غدا، اعتراضا على "حرية العبادة"، وبعد غد، اعتراضا على "حرية الشرب" لينال، في الوقت المناسب، من كل مبادئ الجمهورية العلمانية.
في هذه الحرب، يجد عموم المسلمين أنفسهم في مأزق: غالبيتهم يعلنون وقوفهم ضد "الإسلام السياسي"، ولكنّهم، في الوقت نفسه، يستحيل أن يرضوا عن الإساءة للنبي محمد
الإدارة الفرنسية، بالاستناد إلى ما تملكه من معلومات، تُدرك أنّ مشكلتها الحقيقية مع "الإسلام السياسي" جيو-استراتيجية بامتياز، وليست دينية، ودليلها على ذلك أنّ الحملة التي تستهدفها لم تستند إلى حقائق بل إلى تزوير الحقائق، كتشويه كلام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بتصوير ما قاله عن وجوب مواجهة "الإسلام الراديكالي" بأنّه إعلان ساعة الصفر لاضطهاد المسلمين، ووجوب التصدّي للإرهاب الإسلامي، بأنّه اتهام للديانة الإسلامية بالإرهاب، والالتزام بحماية حرية نشر الكاريكاتور، بأنّه التزام بالإساءة إلى النبي محمّد الذي يتعرّض، في ظل "حق التجديف"، إلى إساءات أقل بكثير من تلك التي يتعرّض لها سائر الأنبياء وصولا إلى الله نفسه.
ولم تجد غالبية الفرنسيين، في مواقف دول وتنظيمات إسلامية، تتقدمها تركيا برئاسة رجب طيّب إردوغان ضد بلادها، سوى الأبعاد السياسية.
لا تحتاج هذه الغالبية إلى بذل أيّ جهد لتقديم "أدلّة الإثبات". يكفيها أن تشير إلى العلاقات التي يقيمها أعنف مهاجمي فرنسا مع الصين التي تُعتبر النموذج المثالي للدول التي تضطهد مواطنيها المنتمين إلى الديانة الإسلامية.
وتعتبر تركيا برئاسة إردوغان نفسه، وفق هذه الغالبية، هي الأخرى، النموذج المثالي عن الدول التي تعزّز علاقاتها السياسية والاقتصادية والثقافية مع الصين التي لا يشك أحد بأنّها تضطهد الأويغور أفظع اضطهاد.
وبناء عليه، فإنّ الفرنسيين لا ينظرون إلى إردوغان، كمرجعية صالحة لتعليم الفرنسيين احترام الآخرين، فهو، على سبيل المثال لا الحصر، لم يأبه بمشاعر أحد حين أعاد متحف آيا صوفيا، وهو في الأصل كاتدرائية بيزنطية، إلى مسجد.
بالنسبة لهم، إردوغان الذي لا يتردّد في كيل الإهانات والتحقير في خطاباته، يتوسّل "وهم" الدفاع عن الإسلام، ليُخفي مآزقه الاقتصادية والسياسية الداخلية، كما تدخلّه العسكري في خمس حروب إقليمية، بالإضافة إلى تسبّبه بأزمة شائكة مع الاتحاد الأوروبي، لأسباب عدة من بينها محاولة كسب ثورة نفطية في الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط.
وتريد الإدارة الفرنسية وضع حدّ لتدخل تركيا، بعدما "هجرت" علمانيتها، في شؤون مسلمي فرنسا.
إنّ التشريعات التي تعدّها الحكومة الفرنسية، لجهة مراقبة تمويل المساجد والجمعيات الإسلامية كما لجهة "استيراد" أئمة للمساجد، إنّما تصب في هذا السياق، لأنّ أكثر من ستين بالمئة من أئمة مساجد فرنسا وخطبائها يأتون من تركيا.
ولا تستطيع فرنسا أن تتوقف عن مسارها هذا، لأنّها إنْ فعلت، فإنّ اليمين الراديكالي، الذي تصح عليه الاتهامات الموجّهة، من دون وجه حق إلى ماكرون، سوف يسيطر على فرنسا ومؤسساتها، في الانتخابات المقبلة.
وهذا لا يعتبر، بنظر كثيرين، مجرد صراع انتخابي، بل هو صراع يرسم صورة أوروبا عموما وفرنسا خصوصا.
إنّ كل عملية إرهابية يرتكبها المتطرفون الإسلاميون تصب في خانة اليمين الراديكالي الذي يغذّي الأحقاد ضد المسلمين وضد المهاجرين، وتاليا، فهو يقود إلى حرب يمكن أن تبدأ أهلية ولكن لا يمكن أن تتوقف عند هذا الحد، في ظل التقدّم الهائل في تكنولوجيا السلاح.
إنّ الجريمة الإرهابية التي استهدفت كاتدرائية نوتردام في نيس، هي نموذجية لهذا اليمين الراديكالي: المهاجم إسلامي، وصل إلى إيطاليا عبر البحر، انتقل إلى فرنسا عبر البر.
في هذه الجريمة تجتمع عناصر العداء التي يرفعها اليمين الراديكالي: إسلامي، مهاجر، وحدود أوروبية مفتوحة.
الإدارة الفرنسية، بالاستناد إلى ما تملكه من معلومات، تُدرك أنّ مشكلتها الحقيقية مع "الإسلام السياسي" جيو-استراتيجية بامتياز، وليست دينية
وهذه العناصر توافرت أيضا في الإرهابي الشيشاني الأصل الذي قطع رأس أستاذ التاريخ صموئيل باتي، وقبله في الرجل من أصول باكستانية الذي طعن مارة كانوا أمام المقر السابق لمجلة "شارلي إيبدو".
وهذا النوع من الإسلام ليس مشكلة فرنسية وأوروبية فحسب، بل هو مشكلة إسلامية أيضا.
وثمة دول إسلامية تعاني هي الأخرى، من "الإسلام السياسي"، على الرغم من الضوابط التي لا تجرّم بقساوة "حق التجديف" فحسب، بل، وفي كثير من الأحيان، الحد الأدنى من حرية التعبير أيضا.
وعليه، فإنّ انكباب الإدارة الفرنسية على موضوع "الإسلام السياسي" لا يمكن أن يكون مرحليا، نظرا لحيويته.
ثمة قناعة فرنسية، إنّ إهمال هذا الملف، لأيّ سبب كان، كفيل بتفكيك المجتمع، وبنصب حواجز الكراهية والعنف، بين مكوّناته العقائدية المختلفة، ومن شأنه أن يقود إلى حرب أهلية، سرعان ما تتوسّع رقعتها وتتراكم كوارثها.
وليسوا قلّة هؤلاء الذين ينتظرون، بفارغ الصبر، حصول هذا، لأنّ العلمانية التي تعتمدها فرنسا، أعداؤها كثر.
وسبق وبيّنت تجارب الحاضر وخبرات التاريخ أنّ العنف ليس متاحا لطرف دون آخر، بل إن الجميع، في ظل غياب الضوابط المقنعة، يمكن أن يلجأ إليه.
ولهذا، فإنّه كما يُغذّي تطرفُ هذا تطرفَ ذاك، يجب أن يعرف رافضو التطرف الديني كيف يخدم بعضهم البعض الآخر، ليس على قاعدة تفاهم الأديان، بل على قاعدة التقاء مصالح الدول وأمان شعوبها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق