عادة ما يُنظر إلى الخداع على نحو سلبي، إذ يعتقد معظمنا بأن لجوء أحد زملائنا إلى الكذب يعني على الأرجح أنه متملق ولا يجيد القيام بوظيفته.
الثلاثاء 2020/09/22
عبر لي أحد أصدقائي على فيسبوك عن استيائه الكبير من ظاهرة الكذب والنفاق، التي أصبحت سائدة في المجتمع التونسي، وأثار هذا الأمر غضبه بشكل عارم، ما دفعه إلى كتابة تدوينة على صفحته بفيسبوك تحت عنوان “خفافيش المجتمع وقطط المناصب: أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق في تونس”، منتقدا فيها حملات التشويه التي يتعرض لها المترشحون لمناصب في الوزارة التي يعمل فيها.
وألح علي صديقي لكتابة تقرير يتناول المسألة، ورغم أنني وعدته بذلك، لكنني على قناعة تامة بأن معظم الناس لديهم نفس المشكلة، مع أصدقائهم وأقاربهم وزملائهم في العمل ممن يثيرون غضبهم إلى أبعد الحدود، وأكثرهم مخادعون وكذابون وتغص أحاديثهم بالإهانات والمراوغات المبطنة، وهذه السلوكيات ليست سوى جزء لا يتجزأ من طبيعتنا ضمن مكونات اجتماعية كبيرة، تتعامل مع مجموعة من المصالح المتنافسة.
عادة ما يُنظر إلى الخداع على نحو سلبي؛ إذ يعتقد معظمنا بأن لجوء أحد زملائنا إلى الكذب يعني على الأرجح أنه متملق ولا يجيد القيام بوظيفته.
لكن عالم النفس البريطاني ريتشارد وايزمان يقول إن “ثلث سكان العالم تقريبا يكذبون كذبات خطيرة كل يوم”.
نحن نعرف أننا لا نعيش في مدينة أفلاطون الفاضلة، فالخداع والكذب منتشران في كل مكان، حتى في عالم الحيوانات، فالحبّار على سبيل المثال ينتحل صفة الأنثى من أجل التسلل إلى الذكر المسيطر، ويرسل إشارة جنسية على جانب الجسم في الاتجاه الذي لا يراه منافسه الذكر.
الخداع والكذب منتشران في كل مكان
أما الديكة فتخدع إناث الدجاج بإصدار صوت يعلن عن وجود طعام، وعندما تأتي الإناث لا تجد شيئا، وتقع فريسة خداع لممارسة الجنس بدلا من تناول الطعام.
لكن، وحدهم البشر “أباطرة الكذب” فهم أفضل من يبرع في الخداع وتلويناته، ويجدون لذلك تبريرات تسهل عليهم حياكة أكاذيبهم وتسويقها بكل برودة دم وأعصاب، وهذا أمر طبيعي فالكذب يسهّل عليهم التعامل والتعاون مع بني جنسهم، ويقدمون على ذلك إما مراعاة لشعور الآخرين، أو للحفاظ على مصالحهم، وتبرير المواقف غير المستساغة بالنسبة لهم. وفي بعض الأوقات، يتمثل السبب في محاولة تبسيط بعض الأمور المعقدة التي قد تشوب الحياة سواء الاجتماعية أو المهنية.
ليس هذا غريبا على أي حال، وبشكل عام، نعلم جميعا أن التحلي بالصدق قد يضر في بعض الأحيان أكثر مما ينفع، ويصب ذلك في لب الكثير من التفاعلات الاجتماعية.
أستحضر هنا مثلا إنجليزيا يقول “إن الصدق سلعة نفيسة ينبغي أن نقتصد في استخدامها”.
لكن ماذا لو علم صديقي أن الكذب لا يرتبط فقط بسمات الأشخاص وسلوكياتهم فحسب، وإنما يتصل أيضا بشكل لا انفصام فيه بطبيعة الوظائف التي يعملون فيها ومضامينها.
فالكذب بين زملاء العمل أمر طبيعي إلى حد ما، بل إن الفيلسوف دافيد ليفينغستون سميث قال في كتابه “لماذا نكذب: الجذور التطورية للخداع والعقل اللا واعي” إن “الطبيعة غارقة في الخداع”.
وفي هذا الشأن، تقول دراسة علمية إن من بين الأسباب التي تجعل الكذب قائما في مجالات وظيفية بعينها، وجود اعتقاد بأن من يجيدون عملهم في هذه المهن، هم أولئك الذين يتبنون مواقف “مرنة” حيال مسألة قول الحقيقة من عدمه.
أما بالنسبة لي شخصيا، فما زلت أعتقد بأنه ليس من الفخر اللجوء إلى الكذب والخداع مهما كانت الأسباب الدافعة إلى ذلك، لكنني سأضع نفسي في خانة “الكذابة”، إذا ادعيت أنني أقول الحقيقة طوال الوقت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق