ضرورة نقد الضحية لاكتشاف جذور المعضلة

. . ليست هناك تعليقات:


بقلم : سعيد ناشيد / كاتب مغربي


ليس الثوري من يُعلّم الناس الشؤم والشكوى والتذمر وما إلى ذلك من أمراض الروح، لكنه من يعلّمهم مهارات الحياة، ويؤجج إرادة النمو باستمرار سواء في ذاته أم في سائر الذوات التي تقاسمه الحراك.

الأحد 2020/09/20


الاستبداد أو الفتنة (لوحة أنس سلامة)


من "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" إلى "طبائع المعذبين ومصارع الموهومين"، من عنوان رسالة عبدالرحمن الكواكبي إلى مقال افتتاحية نوري الجراح للعدد 64 من مجلة الجديد الثقافية اللندنية، إنها مسافة مئة عام من الهزائم والنكسات والخيبات، مصحوبة بصخب الثرثرات المدويّة بلا فائدة، وفي النهاية خرجنا خاوين بالكامل، منخورين من الداخل، ويا له من مآل.

غير أن للحكاية تفاصيل باقية: عندما صار الداخل خاويا أصبح الخروج ملاذا تلقائيا مثل العصيانات العفوية، وهكذا تداعينا في لحظة حلم خاطفة، وفي غفلة من الزمن ومنا أيضا، لأجل الخروج من الداخل المنخور إلى داخل من نوع آخر.. ثم خرجنا على حين غرة.. لكن إلى أين؟

الدرس نفسه ننساه لكنه لا ينسانا: لا نخرج من الاستبداد إلا لكي نقع في أتون الفتنة، ولا نخرج من جحيم الفتنة إلا لكي نسلّم رقابنا لاستبداد ننحته بسكاكين حادة، ثم نغمدها في انتظار أن تحين ساعة الفتنة التي لا تبقي ولا تذر، قبل أن نلقي باللائمة على المتآمرين علينا، وكل ذلك ضمن حلقة مفرغة من خروج يعيدنا مرة بعد كل مرة إلى المربع الأول، إلى حظيرة القطيع، حيث مجمل خياراتنا أن نختار من يذبحنا؟ طبيعي والحال كذلك أن تتعامل الكثير من العقول مع التدخل التركي والإيراني في المنطقة العربية بمنطق أن الاحتلال مثل الصدقة في الأقربين أولى!

حين أسمع تعقيبا على النحو التالي، أن تستعمرنا إيران أو تركيا لهو أزكى لنا من أن تستعمرنا فرنسا أو أميركا، أشعر بأن سؤال الحرية بعيد كل البعد عنا، وبأن سؤالنا الأوحد الذي لا نطرح سواه هو لمن نسلم أعناقنا بعد أن سلمنا عقولنا؟

ذلك هو الحال كما كان ولا يزال إلى الآن، منذ الفتنة الكبرى وما قبلها إلى غاية الحروب الأهلية الجارية اليوم وما بعدها. كأن قدر التاريخ الهجري أن يكون خلدونيا محكوما بالدوائر التي تدور مثل الرحى بين جحيم الفتنة وجمر الاستبداد. فأين المعضلة؟

تكمن المعضلة في أن كل واحد منا يحمل أصناما وألغاما داخل كينونته، وهي التي تحدد له سلفا حدود الطاعة والحرية، وترسم له الأفق الممكن وغير الممكن في اللاهوت والسياسة. وحين يقول الخطاب القرآني “لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”، فلأن أفق التغيير الممكن مرسوم داخل الأذهان قبل الأعيان. قبل أن تندلع الحرب الأهلية داخل المجتمع فإنها تندلع داخل كل ذات على حدة، حين يجد المسلم نفسه في حرب أهلية مع عقله، حواسه، جسده، ميوله، أسئلته، خياله.. إلخ، يسهل عليه الدخول في حرب أهلية مع الآخرين، كل الآخرين، مع الجميع.

من غير المؤكد أن الاستبداد سينهار قريبا، لكن المؤكد أن الثورات قد انهارت بالفعل، بل لعلّها لم تكن في أساسها سوى طبعات متأخرة لـ”الثورة المغدورة”، غير أن المتأخرين يعاقبهم التاريخ كما يقال، ثم إن كل ثورات التاريخ ليست سوى نسخ متكررة للثورة المغدورة، طالما لا تأتي النتائج وفق التوقعات، هي الحكاية نفسها على الدوام. فهل كنا نأمل في آمال مغايرة هذه المرة؟ الحوار الذي أجراه نوري الجراح مع عبدالرحمن الكواكبي في قبره، وهو مثل المناجاة في اللحظات العصيبة، كان جميلا وجليلا، لكنه لم يكن مجرد حوار بين الأفكار، بل كان حوارا بين أفقين للتفكير: من جهة أولى “طبائع الاستبداد” التي توجه سهام النقد نحو منظومة الاستبداد، و”طبائع المعذبين” التي توسع من دائرة النقد لتشمل “الضحايا” أيضا. إن الخطأ القاتل في تاريخ “الضحايا” ليكمن في اعتبارهم محصنين من النقد لا لشيء إلا لأنهم ضحايا. هذا الخطأ له اسم محدد: عصمة الضحايا.

في كل الأحوال، لا خلاص في الأفق القريب أو الأقرب، وبهذا النحو نكون قد التقينا بالسؤال اللينيني في المكان الذي لا نتوقعه: ما العمل؟

قدرنا هو العود إلى البدء، غير أن العودة يجب أن تكون كما ينبغي هذه المرة: البدء أبداء عديدة، وهذا أحدها: اِقرأ. ألسنا أمة اقرأ؟ التعليم، الثقافة، التربية، التنوير، هو شغلنا الحقيقي الذي انتبه إليه الكواكبي قبل أن نغفله أو نغفل عنه في غمرة أوهام السياسة. وأوهام السياسة لا حصر لها، من ضمنها الاعتقاد بأن السياسة بوسعها أن تحلّ كل مشاكل الحضارة والوجود والعقل والتاريخ وهلم جرا. وهذا مجرد هراء.

وفق مقاربة ميشيل فوكو لمفهوم السلطة، ليست السلطة جوهرا متعاليا، بل روح تسري فينا جميعا وتنتشر في كل تفاصيلنا اليومية، ثم يملك كل واحد منا نصيبه من التواطؤ فيها، حتى وإن كانت تسحقه في الأول أو في الأخير. لا تنحصر السلطة في مكان محدد، ولا تهبط علينا من فوق، لكنها تنتشر أفقيا وعموديا وتسري يوميا في كل المسارات والساحات والمؤسسات. لذلك ليس سلوك الحكام سوى قمة ظاهرة من هرم عريض في القعر، يمتد في الأعماق ليشمل كل التفاصيل المرئية وغير المرئية للمجتمع: أنظمة الرموز والدلالات، نمط الإنتاج الاقتصادي، نمط إنتاج الحقيقة، اللاوعي الجمعي، بنية الأسرة.. إلخ. هنا يكمن مغزى مقولة تشرشل “كل شعب في العالم ينال الحكومة التي يستحقها”. وهي مقولة تشبه حديثا منسوبا إلى رسول الإسلام “كما تكونوا يولى عليكم”.

هل معنى ذلك أن الإجابة عن السؤال “ما العمل”، هي أن لا شيء ممكن؟

يرى فوكو أننا ليس بوسعنا أن نفعل الكثير، لكن لا بدّ من أن نفعل شيئا ما، إذ هناك دوما ما يمكن فعله. وطالما السياسة فن الممكن كما يرى لينين، فما هو الممكن الآن؟ المعطى الأساسي أن النظم السياسية لا تتغير جرّاء تغيير الحكام، أو تغيير المسؤولين أو طردهم – حتى ولو كان طرد بعض المسؤولين يحمل بعض الإنصاف أحيانا – لكن تغيّر النظام السياسي يكون بتغيير تلك الرّوح التي تسري في كل الحيثيات والجزئيات التي نصادفها يوميا. لعلها مهمة شاقة على الحالمين، محبطة للناقمين، طالما أنها تراهن على تغيير العقول والأذواق، رويدا رويدا، وبعيدا كل البعد عن عقيدة الخلاص، لكنها في الحساب الأخير تظل المهمة الثورية الفعلية بكل المقاييس، دونها ستغدو الممارسات الثورية مجرد حملات دونكيشوتية، أو حفلات تنكرية، أو دوران في حلقات مفرغة تعيد إنتاج نفس التسلط بأقنعة مغايرة.

إن كان منتظرا من المثقف أن يكون شخصا مزعجا للسلطة كما يقال، فإن التعبير الأدق أن يكون مزعجا لروح السلطة التي تسري في كل التفاصيل، من القوانين الجنائية إلى تقاليد الزواج، ومن مؤسسات الدولة إلى نمط اللباس، ومن نمط الإنتاج إلى طريقة تناول الطعام. دعنا نقولها بوضوح: جبهتنا القادمة، وهي الجبهة الباقية أيضا، تتعلق بإصلاح العقل والحضارة والكينونة.

نتحدث تحديدا عن المثقف اللّاخلاصي – ولعل فكرة اللاخلاص جوهرية في نص نوري الجراح – بحيث يبقى أفق المثقف اللاخلاصي خارج حسابات السلطة. إنه لا يحرّض أحدا على أحد، طالما هو ناقد عمومي للجميع، للدولة والمجتمع، للسلطة والرأي العام، للنخب والجمهور، إنه ناقد لروح السلطة بمعناها العام. ذلك أن التغيير بالمعنى الفوكوي ليس وسيلة لإقامة نظام نهائي ومطلق، بل سيرورة دائمة ومتواصلة، يتعلق الأمر بنوع من الثورة الدائمة إذن، لكن دون أيّ أفق خلاصي هذه المرة، بحيث لا غاية أخرى سوى ألا تتوقف صيرورة الحياة.

ليس ضروريا أن أؤمن بأن الجنة غدا حتى أتصرف الآن؛ ذلك أن الإيمان بالخلاص الدنيوي هو أصل الإحباط الذي يصيب كثيرا من الثوريين وبالتالي يتحولون في الكثير من الأحيان إلى مرضى ناقمين على كل شيء، ساخطين على كل شيء، متذمرين من كل شيء، قبل أن يلجأ بعضهم الآخر إلى استبدال الخلاص الأخروي بالخلاص الدنيوي.

المهمة الأكثر ثورية في التاريخ أن نُعلّم الناس كيف يفكرون؟ وكيف يختبرون بأنفسهم إمكانيات أخرى من التفكير وبما يقلص من الانفعالات السلبية التي هي شرارات الفتن كلها؟ ذلك أن تحسين شروط التفكير لدى الناس من شأنه أن يقود عمليا إلى تحسين السلوك المدني، وتحسين شروط الحياة، بعيدا عن خرافة عصر ذهبي قادم في الأفق، أو عائد من جديد، بعيدا كل البعد عن أساطير الخلاص

ليس الثوري من يُعلّم الناس الشؤم والشكوى والتذمر وما إلى ذلك من أمراض الروح، لكنه من يعلّمهم مهارات الحياة، ويؤجج إرادة النمو باستمرار سواء في ذاته أم في سائر الذوات التي تقاسمه الحراك، وذلك بالعمل على انتقاء الصياغة المناسبة للأسلوب الحكيم، كما ليست مهمته أن يبشّر الناس بوعود عظيمة مثلما يفعل الأنبياء وأشباههم.

بعد كل ذلك فإنه لا يعلم إن كان سيحقق نتائج جيدة خلال حياته القصيرة، لكنه في كل أحواله يعيش معافى من الحقد والكراهية والتذمر، فيحقق لذاته ذلك النمو الذي هو على نفسه حق، وتلك البهجة التي هي على نفسه حق كذلك، فيكون سيد نفسه بالفعل، وبالجملة فإنه يحيا باعتباره مواطنا إيجابيا جديرا بالمواطنة، في نفس الوقت الذي يعيش فيه حياة كريمة جديرة بالحياة. وهذا أعز ما يُطلب في كل الأحوال والأهوال

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ابحث في موضوعات الوكالة

الدانة نيوز - احدث الاخبار

صفحة المقالات لابرز الكتاب

احدث الاخبار لهذا اليوم

اخر اخبار الشبكة الاعلامية الرئيسية

إضافة سلايدر الاخبار بالصور الجانبية

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة
تعرف على 12 نوع من الاعشاب توفر لك حياة صحية جميلة سعيدة

تغطية شاملة ويومية للكارثة اللبنانية وتطوراتها

تغطية شاملة ويومية للكارثة اللبنانية وتطوراتها
كارثة افجار مرفأ يروت - غموض وفوضى سياسية - وضحايا - ومتهمين وشعب حزين

الملف الشامل للاتفاق الاسرائيلي الاماراتي البحريتي

الملف الشامل للاتفاق الاسرائيلي الاماراتي البحريتي
الملف الشامل للاتفاق الاسرائيلي الاماراتي البحريتي .. والتطورات المتعلقة به يوما بيوم

اليساريون - الجزء الأول - الجذور

اليساريون - الجزء الأول - الجذور

الاكثر قراءة

تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

-----تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

الاخبار الرئيسية المتحركة

حكيم الاعلام الجديد

https://www.flickr.com/photos/125909665@N04/ 
حكيم الاعلام الجديد

اعلن معنا



تابعنا على الفيسبوك

------------- - - يسعدنا اعجابكم بصفحتنا يشرفنا متابعتكم لنا

جريدة الارادة


أتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الارشيف

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام
الانستغرام

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة
مؤسستنا الرائدة في عالم الخدمات الاعلامية والعلاقات العامة ةالتمويل ودراسات الجدوى ةتقييم المشاريع

خدمات نيو سيرفيس

خدمات رائدة تقدمها مؤسسة نيو سيرفيس سنتر ---
مؤسسة نيوسيرفيس سنتر ترحب بكم 

خدماتنا ** خدماتنا ** خدماتنا 

اولا : تمويل المشاريع الكبرى في جميع الدول العربية والعالم 

ثانيا : تسويق وترويج واشهار شركاتكم ومؤسساتكم واعمالكم 

ثالثا : تقديم خدمة العلاقات العامة والاعلام للمؤسسات والافراد

رابعا : تقديم خدمة دراسات الجدوى من خلال التعاون مع مؤسسات صديقة

خامسا : تنظيم الحملات الاعلانية 

سادسا: توفير الخبرات من الموظفين في مختلف المجالات 

نرحب بكم اجمل ترحيب 
الاتصال واتس اب / ماسنجر / فايبر : هاتف 94003878 - 965
 
او الاتصال على البريد الالكتروني 
danaegenvy9090@gmail.com
 
اضغط هنا لمزيد من المعلومات 

اعلن معنا

اعلان سيارات

اعلن معنا

اعلن معنا
معنا تصل لجمهورك
?max-results=7"> سلايدر الصور والاخبار الرئيسي
');
" });

سلايدر الصور الرئيسي

المقالات الشائعة

السلايدر المتحرك الرئيسي مهم دا