بقلم : قلولي بن ساعد / ناقد جزائري
ملخص الدراسة
تهدف هذه الدراسة إلى الكشف عن حالات التلازم بين سرديتين في رواية جزائرية هي رواية ( فرانز فانون ) للروائية الجزائرية جيجيقة براهيمي السردية الأولى هي سردية فانون كما تتمظهر في السرد التوثيقي كمتكأ نصي إتخذته الروائية مرجعا نصيا ، مع أنها إختارت ما يناسبها فقط لكتابة رواية لا تتطابق التطابق الكلي مع ما يسمى الرواية التاريخية وسردية أخرى هي سردية الرواية الجامعة بين المتخيل والتاريخي لإحداث نوع من التامسك الفني الذي يتطلبه العمل الروائي كفن معاصر، وبالطبع الدراسة ليست معنية بالإجابة عن ذلك السؤال الذي يتردد على ألسنة النقاد والكتاب عن حدود التاريخي وحدود المتخيل لكنها في مواجهتها للنص الروائي إفترضت قراءة ثقافية تستمد موادها الإجرائية والمفهومية من سرديات النقد ما بعد الكولونيالي طبقا لمضمون النص ذاته والإسئلة التي يحاول إثارتها وهي أسئلة تاريخية لكنها راهنة ولا زالت تداعياتها تلقي بظلالها على النصوص الروائية والسردية المكتوبة في أفق هو أفق ما بعد الكولونيالية وهي القراءة التي قادتنا إلى مناقشة عدد من القضايا والإشكالات التي حاولنا حصرها في العناصر التالية :
الرواية والفضاء ما بعد الكولونيالي
الرواية السارد والسارد المضاد
مريامة ..الإسم والجرح والبطلة الضحية
العنف الكولونيالي والعنف المضاد ..الألم العضوي والألم التاريخي وسياسات التمثيل
الهجنة والهجنة السردية ..الثأر والعمى الثقافي .
الرواية والفضاء ما بعد الكولونيالي .
تستدعي الروائية الجزائرية جيجيقة براهيمي في روايته الثانية ( فرانز فانون ) شخصية تاريخية هو المناضل المارتينيكي فرانز فانون وهو بمفهوم جيل دولوز ( شخصية مفهومية ) ، أو ( ذاتا عالمة ) بتعبير محمد عابد الجابري ورغم أنها تتوكأ على الكثير من النصوص والسرديات الفانونية سواء تلك التي كتبها فانون بنفسه عبر عدد من كتبه والمقالات التي نشرها أو تلك التي كتبت عنه وتناولت سردياته التاريخية والثقافية في أفق ما بعد الكولونيالية بوصفه أحد أبرز المفكرين الذين ناهضوا الكولونيالية والجروح الإستعمارية ، لكنها لا تغوص عميقا في الإتكاء على البعد التوثيقي للرواية بل تحاول تقديم نص روائي يسعى إلى نوع من ( الإختلاق ) بتعبير إدوارد سعيد إختلاق تاريخ متخيل للظاهرة الفانونية هو التاريخ الذي لم يكتب بعد وليس في قدرة المؤرخ التعبير عنه إلى حد الإقتراب من الرواية / الحكاية بما يهدف إلى الكشف عن الأنساق الثقافية المضمرة في حركة التاريخ تاريخ لقاء الشرق بالغرب للحد من هيمنة ( السرديات الكبرى) كما قدمها فيلسوف ما بعد الحداثة وهو جان فرانسوا ليوتار سرديات الإستعمار والرد عليها في سياق ثقافي هو سياق ما بعد الكولونيالية وفقا لنوع من المقاربة التي إختارها ناقد من نقاد ما بعد الكولونيالية وهو بيل أشكروفت في كتاب جماعي بعنوان ( الرد بالكتابة .. النظرية والتطبيق في آداب المستعمرات القديمة ) ، الأمرالذي تطلب منها القيام بنوع من المزج بين المتخيل والتاريخي ضمن برنامج سردي يتوخى خيارا هو خيار ( التحبيك أو صياغة الحبكة) بالمعنى الذي ينبه إليه الناقد الثقافي الدكتور نادر كاظم متحدثا عن المشروع التأويلي للهوية السردية في صياغة بول ريكور وهايدن وايت أي " مجموع التسبيقات والترتيبات التي تتحول من خلالها الأحداث والوقائع إلى حكاية منسجمة وذات معنى " (01) .
ولا يبدوا غريبا إختيار الروائية جيجيقة براهيمي لفضاء تدور فيه أحداث هذه الرواية هو الفضاء ما بعد ما بعد الكولونيالي لسببين السبب الأول :
إرتباط الفضاء / الأرض بالأنوثة والسببان متلازمان بالضرورة والمكان الذي لا يؤنث لا يعول عليه مثلما كان يقول إبن عربي والسبب الثاني :
هو كون الإثنان الفضاء والأنثى ( مريامة ) تعرضا لإعتداء كولونيالي سافر.
ثم نقل نصية هذا الفضاء إلى فضاء آخر هو الفضاء النصي للرواية للكشف عن تلازم التاريخي بالسردي في الفضاء المأهول بالوجود الكولونيالي في عملية هي أشيه بالمشروع البيداغوجي الذي تحدث عنه الباحث الجزائري جمال بلقاسم وفد أرجعه إلى نوع من " الحدس الهيغلي الذي كان يرى أن الحضارة والتاريخ يتحركان بأنفس غربية " (02) .
وإذن فنحن إزاء جغرافيا جديدة هي الجغرافيا الكولونيالية كما كشف عنها إدوارد سعيد في كتابه ( الثقافة والإمبريالية ) المخطط لها عبر إستراتيجية هي ما يطلق أو ( الإزاحة والتثبيت ) بتعبير الناقد الفلسطيني رامي أبو شهاب أو ( الإحلال البشري ) كما يفضل أن يشرح دواعيه الهيغلية مفكر مصري هو الدكتور علي مبروك كخطوة أولى يليها إحلال آخر هو الإحلال الثقافي الذي يعتبره علي مبروك " أقل دموية ولكنه أكثر دهاء " (03) وهو فضاء كان يتطلب من الروائية إحداث نوع من المقايسة الأنثوية الماثلة في الربط العضوي بين الذات الضحية ( ماريامة ) الذي وقع عليها فعل الإغتصاب من طرف جاك رئيس فرقة المظليين والارض المأهولة بالإحلال العسكري الممثل في الثكنة العسكرية
بجنودها وضباطها العفنين . ولهذا الإفتراض ما يبرره لإعتبار جندري يجد تجذره الإبستمولوجي في ما أصبح يسمى في حقل الدراسات الثقافية يالإيكولوجيا النسوية . ولأجل هذا تحاجج ناقدة نسوية هي أرين كارين بأن تفشي الهيمنات دفع بعض الباحثات في قضايا النسوية الإيكولوجية إلى تقديم تفسيرات تاريخية وسببية للعلاقة القائمة بين المرأة والأرض إلى الحد الذي جعلها تتخذ من كتاب ( المرأة والسيف ) لرايان إسلر مثالا في مرحلة تسميها مرحلة ما بعد الغزوات البطريكية الرعوية .
فمن جهة " ترمز الزهرة إلى مجتمع التعاون والسلام والمساواتية في حين يرمز السيف إلى العدوان والعنف والنزعة الحربية والهيمنة الذكورية " (04) . ولا داعي لسرد بعض الأمثلة على الدالة على تفشي (المنظور الأمبريالي للعلوم البيئية ) مما قد يبعدنا عن الغاية المرجوة من هذه الدراسة المندرجة في سياق النقد ما بعد الكولونيالي للرواية ( فرانز فانون ) ومع ذلك لا ينبغي تجاهل المرادف المفهومي للإمبريالية البيئية كما يتردد صريحا في المجهود البحثي لباحثة جزائرية هي الدكتورة جويدة غانم عندما كانت بصدد الكشف عن الأنساق الثقافية المضمرة في علاقة الجغرافيا بالأمبريالية وفي نظرها أن " الجغرافيا الإستباقية لم تنفصل عن الرغبة القصوى في إحتلال العالم من طرف الإمبرياليات الكبرى " (05) . ووفقا لهذا المنظور فالأمبريالية البيئية " خربت ودمرت البيئات المستعمرة وأشكال التعايش التقليدية فيها " (06)
الرواية السارد والسارد المضاد
رواية ( فرانز فانون ) هي رواية مابعد الإستعمار ومن الطبيعي أن تحمل هذه الرواية بعض رواسب الفترة الكولونيالية التي عرفتها الجزائر ويحضر الآخر فيها حضورا طاغيا لكن الرواية هل هي نفسها الرواية من الناحية النسقية التي عرفها الغرب وأوجدها كفن حملته إلينا حركة المثاقفة بوصفها وجها من أوجه ( المرجعيات المستعارة ) كما فكك بعض أنساقها المهيمنة ناقد ثقافي هو الدكتور عبد الله إبراهيم في كتابيه ( الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة ) و( السردية العربية الحديثة تفكيك الخطاب الإستعماري وإعادة تفسير النشأة ) .. ؟ طالما أن الأمر يتعلق برواية أخرى هي رواية الأطراف أو رواية الضد . وينبغي أن لا ننسى أن مؤلفة هذه الرواية هي إمرأة من فضاء آخر هو الفضاء المقصي والثقافة الغربية عموما مثلما يقول إدوارد سعيد عادة ما تعمد " إلى إقصاء اللاحق " (07) .
الإقصاء الذي يتمظهر في الإعدام الوجودي للشخصية الروائية وإعتبارها أمرا ثانويا فمفهوم الشخصية يقول رولان بارت "مفهوم ثانوي في الشعرية الأرسطية وهو خاضع كليا لمفهوم الحدث " (08 ) لذلك إعتبر إدوارد سعيد أن النص الروائي هو " حدث إحتمالي يكتسب إمكانية حدوثه من خلال ظرفه الدنيوي لكنه في الآن ذاته يسمو عن حرفية الحدث إلى فضاء التعبير الشعري " (09 ) ودعا إلى تجاوز ( تيه النصبة ) والتعامل مع الرواية بوصفها فضاء من فضاءات القوة الماثلة في (نظام الخطاب ) الحامل لأنساق الهيمنة والإستبداد السياسي والعسكري مع دول وشعوب العوالم غير الأوربية .
وهكذا فالأشكال السردية التي تعامى عن أنساقها المهيمنة النقد الشكلاني وإخوته في (الرضاعة الألسنية ) إن جاز التعبير ليست مجرد أشكال فنية أو خيارات تقنية خالية من المعنى والدلالة . فعندما كان إدوارد سعيد بصدد التأمل في الشكل السردي كما يتجلى في بعض أعمال جوزيف كونراد لاحظ إدوارد سعيد أن الأشكال السردية منبثقة من منظومتين في عالم ما بعد الإستعمار المنظومة الأولى هي منظومة الإستعمار فيما المنظومة الثانية هي منظومة ما بعد الإستعمار وإحدى هاتين المنظومتين يقول إدوارد سعيد " هي التي تتيح للمشروع الأمبريالي القديم المجال لكي يمسرح ذاته بالصورة التقليدية أي ليصوغ العالم كما رأته الأمبريالية الرسمية الأوربية أو الغربية " (10) . هذا ما يعني عدم الأطمئنان إلى الأشكال القارة التي درج عليها النقد الشكلاني في إعتبار السارد أو (الرواي من خلف ) كما يطلق عليه في السيميائيات السردية شخصا محايدا وأن مهمته تنحصر في إدارة اللعبة السردية من دون تدخل أو توجيه فمن هو السارد إذن وفقا لهذه الإزاحة الحاسمة في إعادة النظر في مفهوم ودور السارد في المنظور ما بعد الكولونيالي .. ؟ يقول إدوارد سعيد : " السارد ليس الشخص الذي يقف وراء القناع وليس هو الذي يحجب الأدوار أو
يوزعها وليس هو كونراد ولا ديكينز ولا فروستر إنه راعي الثقافة المهيمنة التي تدخل الرواية ضمن أدوات مشروعها الإستعماري الذي يرتكز على الليبرالية الإنسانية تلك الفكرة التي حملها الغرب إلى بقاع العالم كمشعل يضئ الظلمات " (11).
وفي منظور إدوارد سعيد فإن الإستشراق بوصفه " تبادلا حيويا بين المؤلفين الأفراد والمؤسسات السياسيىة التي شكلتها الأمبراطوريات الثلاث البريطانبة والفرنسية والأمريكية هي التي أنتجت الكتابة الإستشراقية التخييلية " (12) وبمقتضى هذا النحو من ( الإرجاء ) بمفهوم ديريدا أو ( التعديل ) بمفهوم غياتري سبيفاك يتبدى لنا أن الموقف النقدي الأرسطي كما قال رولان بارت الهادف إلى التقليل من العناية بدور الشخصية والشخوص الروائية وإعتبارها ثانوية أو ملحقة بالحدث يعبر عن نسق ثقافي ثاو من أنساق الهيمنة الثقافية التي تتعارض أشد التعارض مع ما تتطلبه التعددية الثقافية بوصفها فرعا من فروع النقد الثقافي من دون أن ننسى بالطبع أن إدوارد سعيد ليس بالشخص الذي يقدم على إطلاق أحكام جاهزة ومن دون تأن على كل ما أنجزته العبقرية الغربية في فن الرواية . وهو لا يتحدث عن الرواية الغربية في شموليتها مثلما يرى لكنه يكشف عن الأنساق المضمرة في نصوص روائية غربية وقع مؤلفوها تحت طائلة ما يسميه ( باللاشعور الكولونيالي ) وهو يمارس نقدا هو ( النقد الدنيوي ) بإتجاه مناوشة الإكراه النظري لحل مشكلة ( مديونية المعنى ) بنعبير ميشال غوشيه أو على الأقل زحزحة الوعي المركزي بإتجاه ما سماه ميشيل فوكو ( إقتسام الفهم )
الإقتسام القائم في "وقوف النص في منظور إدوارد سعيد موقف الإعتدال بين التفريط البنيوي الذي يلغي العالم الخارجي والإفراط الواقعي الذي يجعل اللغة مرآة عاكسة للخارج ليس إلا .." (13)
ولهذا السبب فقد أخذت رواية ( فرانز فانون ) لجيجيقة براهيمي على عاتقها عبئا ثقيلا تمثل في كتابة روائية تقوم بمهمتين المهمة الأولى هي تسريد التاريخ للظاهرة الإستعمارية كما تصدى لها فانون وكشف عن الأنساق المضمرة في الطب الأمبريالي عندما كان طبيبا مختصا في الأمراض العقلية بمستشفى جوانفيل بالبليدة وقد وقف على الكثير من التجاوزات اللاخلاقية بإسم الأمبريالية الطبية منذ اللحظة التي عين فيها رئيسا للخدمات الطبية بمستشفى جوانفيل فالعارفون بسيرته العلمية والمهنية يؤكدون أنه كان " ينتمي إلى الجناح الراديكالي في ممارسة التحليل النفسي فهو لم يذهب إلى الجزائر لينظم إلى الثورة التي لم تبدأ إلا في الفاتح نوفمبر سنة 1954 والوجهان لم يفترقا الترويج للثورة والترويج لمفهومه في العلاج النفسي المؤسسي وهما مظهران للإلتزام نفسه " (14) . فيما المهمة الثانية وهي مهمة تخييلية بحتة تمثلت في ( إختلاق ) تاريخ متخيل للظاهرة الفانونية في صلتها بالأهالي أو الأنديجان الذين صادفهم في مسيرته المهنية عندما كان طبيبا مختصا في
العلاح النفسي الأنكلينيكي ومن هؤلاء إحدى شخوص الرواية وهي مريامة الفتاة التي تعرضت لأبشع إغتصاب من طرف رئيس فرقة المظليين جاك حدث ذلك في زمن معلوم إرتبط بالتحضير لزفافها ومن ثم الإستعداد لمغادرة بيت والدها والتوجه إلى بيت زوجها .
مريامة ..الإسم والجرح والبطلة الضحية
لا يمكن إعتبار ما حدث لمريامة خطيئة لإرتباط الخطيئة في المجتمعات الأبوية والذكورية في المنظور التاريخي المتحيز بالذات الأنثوية لأن ما وقع لمريامة من إغتصاب لم يكن بمحض إرادتها بل هو إعتداء سافر فرض عليها فرضا عندما كانت منهمكة في الإستماع إلى صوت فرانز فانون بوصفه أحد المشاركين في المؤتمر العالمي للكتاب والفانين السود المنعقد بباريس سنة 1956 حيث تمت دعودة جهابذة القارة الإفريقية من طرف ألان ديوب وقد ظلت لصيقة بالمذياع ولم تهتم بنداء جدتها طيموشة وقد أهلتها دراستها لدى الأخوات البيض لإستيعاب جانب من محاضرة الشاعر الإفريقي إيمي سيزير.
كان جهاز المذياع يصدح بصوت فانون وقد تولى لاكوست شخصيا متابعة المحاضرة عبر صوت الثورة الجزائرية بإذاعة القاهرة ناهيك عن بعض المحطات الأوربية الإسبانية والإيطالية . إستمر فانون في محاضرته قائلا :
" لقد ظهرت في هذا الصدد بعض المواقف المتطرفة التي تحاول تبرير العنصرية تبريرا ماديا وعلميا ولكن دعوني أتفاءل مؤكدا لكم بأن تلك المواقف قد باتت في طريقها إلى الزوال " (15).
غير أن المذياع توقف فجأة في يد مريامة حاولت إستنطاقه وعندما لم تفلح أرسلت إبن جيرانها أرزقي للبحث عن ألبير الطفل الذي أهداها ذلك المذياع على الرغم من كونه إبن جاك رئيس فرقة المظليين وهو مختلف تمام الإختلاف عن طبائع والده أخرج الطفل من جيبه البطاريات الجديدة ووضعها مكان البطاريات القديمة ثم إلتفت إلى مريامة قائلا :
" هناك رجل دين مسيحي يساعد الثوار قيل لي أنه يوفر لهم بطاريات المذياع إنه الكاردينال ليون إيتيان دوفال " (16) .
ثم عاد الطفل من حيث أتى بعدها عاد أرزقي يحذر مريامة ويأمرها بالهروب لأن فرقة المظليين قادمة .
لم تنفع معهم محاولات الدفاع عن نفسها ولم تستطع جدتها طيموشة ولا النساء اللواتي كن معها حمايتها من المظلي جاك وأعوانه والكلب الذي معهم . إغتصبها من دون رحمة ولا شفقة ثم صادر المذياع وأمر الكلب بقطع أذنها ففعل ذلك بلا رحمة أيضا .
وما حدث لمريامة لم يكن الحدث الوحيد الذي تعرضت له . لقد توالت عليها الضربات من طرف جاك وأعوانه بينما إبنه ألبير ظل على علاقة بها . كان على وعي تام بما يحدث
حوله ويبدوا أنه يرتاح لها كثيرا ويحاول مساعدتها غير آبه بتحذيرات والده الذي لا يتقاسم معه القناعات التي يؤمن بها .
فعلى صعيد الإستراتيجية النقدية تعتقد أن القراءة الثقافية لدلالة الجرح وعلاقته بالإسم لا يمكن إختزالها في (جرج الإسم الشخصي) بمفهوم عبد الكبير الخطيبي فللجرح معنيين جرح شخصي وجرح آخر هو الجرح الكولونيالي ففي جرح الإسم يتحدد الجرح مرتبطا بالإسم داخل النص وليس خارجه كما يقول عبد الكبير الخطيبي ذلك أن " النص هو مجال الدوران السري لحث الفعاليات المميتة لمصائرنا " (17) .
والنص الذي يتحدث عنه الخطيبي هو النص السردي العربي الذي يمتد من ألف ليلة وليلة إلى آخر نص سردي تكتبه الذاكرة العربية أو (الذاكرة الموشومة ) وفقا لنوع سردي هو الرواية أخلص له الخطيبي كل الإخلاص وهو جرح بالطبع لا يختلف كثيرا عن الجرح الإستعماري الذي فكك أنساقه الداخلية كاتب جزائري هو جان عمروش على الرغم من أن جان عمروش كان يتحدث عن جرح الإنتلجانسيا المغاربية في مواجهة الكولونيالية الفرنسية كما يشرح ذلك المستشرق الروسي فلاديمير ماكسيمنكو أومايسميه "بالشغف المخدوع الذي يتدفق في صدام واقعين هما فرنسا الكولونيالية الجشعة المضطهدة وفرنسا المحررة المتقدة من جهة أخرى " (18 ) .
وعلى ما نرى فإن تيمة الجرح كانت ولا زالت تلازم الروائية جيجيقة براهيمي في جل نتاجها الروائي والدليل على ذلك أنها أصدرت سنة 2013 رواية أخرى بعنوان ( نزيف الرمانة ) .
وبقدر حالة القهر والأسى التي لازمت مريامة بفعل ما تعرضت له من إنتهاك لجسدها وإذلال لها رغم تعاطف الجميع معها فإن نزعة البطولة لم تفارقها وظلت على عنادها متحدية جاك ومن معه من المظليين يحدث كل ذلك في الوقت الذي تقدمها فيها الرواية بوصفها ضحية علما أن نموذج البطلة الضحية يشكل أحد أهم الأنساق الثقافية لما يسمى ( بالشخصية النامية ) في الحكاية العربية وقد أدرج الدكتور عيد الحميد بورايو هذا النوع من (الشخصيات النامية) ضمن حكايات البطلة الضحية التي كان يرى أنها النمط الذي يغلب على حكايات البيوت العربية في الثقافة المغاربية وهو " نمط ترويه النساء ويشكل تراثا مشتركا لجميع بلدان شمال إفريقيا ولا يمثل سوى شكلا فرعيا في الحكاية العجيبة أو الخرافية لم يعالجه فلاديمير بروب " (19) .
ويفترض عبد الحميد بورايو نظاما سيميائيا يسميه ينظام المعنى يتحدد على ضوءه البرنامج السردي من خلال تضادات سردية وزمنية ومكانية يتعلق التضاد السردي بمسارين المسار الأول يقول " تتكفل به البطلة الضحية بينما تتكفل القوى المناوئة لها في أسرة المنشأ وأسرة الزوج الضرات بالمسار الثاني " (20) .
هذا ما يعني أن البطللة الضحية ( مريامة ) كما تقدمها لنا الرواية لا تواجه في المسار الثاني أسرة الزوج أو أسرة المنشأ بل هي في مواجهة قوى أخرى أكثر عنفا وإمتهانا للكرامة الإنسانية إنه العنف الإستعماري الذي ناهضته لوحدها في الوقت الذي كان فيه خطيبها مدرس القرية أحمد في حالة فرار تترجمه الأقوال المتواترة الواردة على لسان شقيقها مقران عندما سخر من والدة أحمد مدرس القرية
" أين هو إبنك .. .. ؟ لقد سمعت الناس يتحدثون بأنه فر خلسة مع موزع البريد الموظف لدى الإدارة الإستعمارية . ألا يكون قد تآمر مع الغزاة وبمجرد أن وصلت مريامة إلى بيتكم فر ليمنح الفرصة للمظلي جاك قصد إغتصابها .. ؟ " (21)
فهل هذا صحيح .. ؟ الساردة لا تؤكد هذا الإفتراض الوارد على لسان مقران ولا تنفيه بل تترك ذلك معلقا بين الممكن أو اللاممكن فتلجأ إلى ممارسة ما يسمى بالحذف السردي أو الحذف الإفتراضي كما يظهر بجلاء في تحليل خطاب الحكاية لدى جيرار جينيت والذي يرى أنه " أكثر أشكال الحذف ضمنية وتبرره فلسفة حدود تماسك الحكاية " (22) .
ومن وجهة نظري أعتقد أن الأمر لم يكن كذلك فهو مجرد ( تورية ثقافية ) بتعبير عبد الله محمد الغذامي إتخذتها الساردة ذريعة ليس إلا للهروب من سؤال أكبر من طاقتها على الإجابة عن هذا السؤال المحرج بصرف النظر إن كان ذلك صحيحا أو غيرصحيح .
العنف الكولونيالي والعنف المضاد ..الألم العضوي والألم التاريخي وسياسات التمثيل .
العنف الممارس على مريامة منذ اللحظة التي تعرضت فيها لإغتصاب وحشي من طرف المظلي جاك الذي قابلته هي الأخرى بتصميم مضاد على المضي قدما في عنادها والتشبث بمتابعة أخبار الثورة عبر صوتي عيسى مسعودي بالعربية وكمال داودي بالقبائلية مهما كلفها الأمر من ثمن قابله عنف جاك المتكرر. وعندما يئس من تصميمها قرر قطع إذنها الأخرى ثم بعثها إلى مستشفى جوانفيل وتكليف إحدى الأخوات البيض وهي نورسين التي
يستخدمها جاك بتدبير قبر وهمي لها . وفي مستشفى جوانفيل وجدت أمامها نورسين المبعوثة كممرضة لتضاعف العذاب لمريامة عبر الحقن المتزايد بهدف إسكاتها قبل أن يكتشف حالتها فانون ويقرر متابعة حالتها الصحية والحيلولة بينها وبين الممرضين الفرنسيين وطلبة الطب وهم في الأصل من صغار المظليين تم حقن عقولهم بمعلومات علمية خاطئة عن الأفارقة ( المتوحشين ) الذين لا ينحدرون من أصول أوربية ومما لا يمكن تجاوزه أو القفز عليه أن الساردة لا تحدد لنا بالضبط نوع الحقنة المستخدمة ومضاعفاتها النفسية والعقلية من طرف نورسين ضد مريامة بهدف إسكاتها على إعتبار أن فانون نفسه يتحدث عن حقن ممنوعة دوليا ويحذر من إستخداماتها ومضاعفاتها الصحية والنتائج المترتبة عنها وتأتي على رأس هذه الحقن مثلما يقول حقنة هي ( حقنة الحقيقة ) ( الحقيقة البيضاء ) وهي تحتوي يقول فانون " على مادة كيمياوية ذات خصائص منومة تحقن في الشرايين وتتسبب في عوارض تلف الشخصية " (23) . ومن هنا يلاحظ فانون أن بعض الأطباء المحسوبين على ما يسمى بالطب الأمبريالي يضاعفون من إستخدام هذه الحقنة ( حقنة الحقيقة ) لإعتبارات غير طبية وأحيانا يقول "يتدخلون إثر كل جلسة بهدف إعادة المعذب إلى حالته الأولى لتهيئته لجلسات تعذيب أخرى والإبقاء عليه حيا ومن ثم مواصلة إستجوابه " (24) .
وغني عن البيان أن فانون الذي لا يقاسم بقية الأطباء نفس القناعات البسودو علمية الخاطئة كان يؤمن بما يسميه نايجل سي غبسون ( العلاج النفسي المؤسسي ) الذي تعلمه من فرانسوا توكسيل وفرانسوا توكسيل كما يقدمه نايجل سي غبسون هو " ثوري لاجئ من الحرب الأهلية الإسبانية رائدا في مجال العلاج النفسي المؤسسي في سان ألبان حيث إلتحق به فانون سنة 1952 " (25) .
ويؤكد نايجل سي غبسون في كتابه ( فانون المخيلة ما بعد الكولونيالية ) أنه بالفعل شرع فانون منذ أن إلتحق بمستشفى جوانفيل بالبليدة في تطبيق عدد من الإصلاحات العلاجية وفقا للمبادئ والطرائق العلاجية التي تعلمها من فرانسوا توكسيل يذكر منها نايجل سي غبسون العلاج التاهيلي والعلاج النفسي الجماعي وفك القيود عن المرضى وتنظيم رحلات سياحية للمرضى وغير ذلك في خطوة كان يهدف فيها فانون على مايرى سي غبسون إلى "منع قانون الفصل محرما الإمتيازات العرقية " (26 ) الأمر الذي أقلق السلطات الإستعمارية ومعها ممثلي ما يسمى الطب الأميريالي المتواطئ مع الأمبريالية العسكرية ممثلة في لاكوست وجاك وغيرهم .
لكن مشروع فانون الذي قوبل بالرفض إضطره إلى تقديم إستقالته والإلتحاق بضفوف الثورة الجزائرية ولم يتردد أبدا في تبرير العنف المضاد للكولونيالية لكنه إشترط أن يكون هذا العنف بوصفه " كفاحا مسلحا يصح ان نسميه النقطة التي لا عودة بعدها " (27) .
ولا ريب أن ما يجعل التناول النقدي لظاهرة العنف الكولونيالي يأخذ مداه الأوسع بما يموضع العنف الكولونيالي بوصفه مجالا سرديا وروائيا الإنطلاق من الألم الفردي إلى الألم التاريخي بالمعنى الذي نعثر عليه لدى مفكر هو دومينيك لاكابرا عندما يميز بين الجرح البنيوي والجرح التاريخي على مايرى ناقد مغربي هو الدكتور إدريس الخضراوي فأما الجرح البنيوي فيعني به " إحساسا بالألم يتميز بتجليه بأشكال مختلفة في كل المجتمعات بسبب ما يحدث أثناء الولادة من تمزق وإنفصال عن رحم الأم وكذلك الألم بسبب الوجود في العالم " (28).
بينما يتميز الجرح التاريخي بخصوصية تتمثل في كونه " حدثا مؤطر زمنيا بمعنى أنه يرتبط بزمان ومكان محددين وليس العالم كله موضوعا له مثل الصدمات والآلام النفسية التي يخلفها الإستعمار وكذلك القمع السياسي والحروب والتطهير العرقي والمنافي " (29). التمييز الذي قاد إدريس الخضراوي إلى إستخلاص مفاده " إذكان من غير الممكن الخلاص من الجرح البنيوي فإنه بالإمكان مواجهة الجرح التاريخي ذلك لإن تذكره عبر توسط السرد والحكي لا يلبي فقط حاجة للمعرفة وإنما يمثل كذلك مدخلا للنسيان " (30) .
النسيان المشروط ليس فقط بتجاوز حالات الإسكات أو الإكراه الجسدي الممارس على مريامة وعلى غيرها من الأهالي المرضى والمحبوسين بمستشفى جوانفيل بالبليدة بل كسر حاجز الصمت وتقويض مشاريع التمثيل الغربية .
وينبغي أن لاننسى أن فعل الإكراه الممارس على مريامة من طرف جاك كما يحضر في النص الروائي لجيجيقة براهيمي ليس بالأمر الطارئ في الوعي الثقافي والفلسفي لكاتبة الرواية فقبل أن تصدر هذه الرواية كانت جيجيقة براهيمي قد تناولت فلسفة الإكراه في إطروحة جامعية بقسم الفلسفة / جامعة الجزائر متحدثة عن ( حفريات الإكراه في فلسفة فوكو ) . وكما لا يخفى على أحد من المشتغلين بحقل النقد الثقافي والدراسات ما بعد الكولونيالية فحالات الإسكات التي يلجأ إليها الطرف القوي عندما يبسط هيمنته على الآخر المقصي من الكلام يقابلها بدور أشد إمتهانا للذات المعتدى عليها وهو التمثيل أو تمثيل الآخر والكلام بإسمه بوصفه تابعا عاجزا عن تمثيل نفسه وينبغي أن يمثل كما كان يردد ماركس لهذا ينبهنا إدوارد سعيد إلى خطورة التمثيل الذي يعطيه عنوانا بارزا هو ( إساءة التمثيل ) رغم أنه لا ينكر ما للتمثيل من حضور في عالم لا من السلع بل وفي الثقافة والتنظير مثلما يقول . وبالطبع فإدوارد سعيد لا يتعامى عن مركزية التمثيل عندما يحاول وضعها في سياقها السياسي التام وهو سياق الإمبريالية وفي ضوء ذلك تتطلع سياسات التمثيل الغربية بحسب إدوارد سعيد إلى ممارسة ماتراه حقا في " التزييف الجذري الماثل في الفصل والعزل والتعالق مع القوة بوصفها صور لي سياسية " (31) هدفها تقويض الصوت الأصلاني وإجباره على الصمت والعزلة بما يستجيب لدواعي الولاء السياسي الأعمى (لنظام الخطاب ) حسب صياغة ميشيل فوكو في أصوله المركزية .
إنه الحمق عندما يلازم (نظام الخطاب) بتعبير فوكو فيجد نفسه في مواجهة خطاب آخر هو ( النص النقيض ) من أجل هدف محدد هو التأسيس (لخطاب نقيض ) " ينهض على إستحضار مفهوم الإختلاف الذي يستدعي داخل الخطاب الكولونيالي فكرة الإنزياح عن المعيار الغربي ويستدعي فكرة الإرجاء في صيرورة تعيين الذات " (32) كماهو الحال في رواية ما بعد الكولونيالية وليست رواية ( فرانز فانون ) لجيجيقة براهيمي سوى واحدة من هذه النصوص ( نصوص الرد بالكتابة ) وفقا لنوع من المقاربة النقدية التي يقترحها ناقد من نقاد ما بعد الكولونيالية وهو بيل أشكروفت .
الهجنة والهجنة السردية ..الثأر والعمى الثقافي .
يكتسي التوصيف لشخصية فرانز طابعا إشكاليا فهو إفريقي من جزر المارتينيك تلقى تكوينا فرنسيا مزدوجا في الطب العقلي والفلسفة ومارس مهنتة كطبيب تحت الوصاية الكولونيالية . وقبل أن يعين في مستشفى الأمراض العقلية جوانفيل بالبليدة كان قد أصدر كتابه ( بشرة سوداء أقنعة بيضاء ) الكتاب الذي أدان فيه (سياسات الأوصاف البيضاء ) بمفهوم الباحث الجزائري جمال بلقاسم في سياق تقويضه لمركزية الرجل الأبيض في علاقته المرضية بالمرأة الملونة أو السمراء خاصة عندما تتجاوز حدود العلاقات الإنسانية إلى حد الوصول إلى نوع من ( الإسشراق اللوني ) كاشفا عن بؤس ميتافيزيقا الهيمنة التي تحاول الإختباء وراء وهم مركزية الجنس الأوربي الأبيض في إستعلائيته المريضة بوهم التفوق والإصطفاء اللوني .
وعندما أيقن فانون أن الكولونيالية الفرنسية ماضية في غيها رغم محاولاته إحداث نوع من الأصلاح أو (العلاج النفسي المؤسسي) بمفهوم فرانسوا توكسيل في التعامل مع الأهالي المرضى والمجانين بفعل حالات الذعر والتعذيب والهيستيريا قدم إستقالته لمدير المستشفى وإلتحق بصفوف جبهة التحريرالوطني في تونس التي أحضرت له جواز سفر تونسي بإسم إبراهيم عمر فانون .
وفانون نفسه يعترف أنه لم يكن فرنسيا خالصا رغم أن الجامعة الفرنسية والثقافة الفرنسية هي التي جعلت منه طبيبا وهي التي منحته شهادة أخرى في الفلسفة فاللغة والثقافة في منظور فانون لا تكفي لكي ينتمي المرء إلى شعب ويشترط أن تتوفر لذلك أشياء أخرى يذكر منها " الحياة المشتركة والذكريات المشتركة والأهداف المشتركة وهذا ما كان ينقصني في فرنسا " (33) .
لذلك لم يستغرب أبدا عندما لم تستوعب مريامة لما رأته لأول مرة بالنظر لسمرة وجهه أن طبيبها الخاص مختلف تماما عن غيره من الأطباء الفرنسيين الذين لا يرتاح لهم المرضى والأهالي وأنه ذلك الطبيب الذي سمعت صوته في إذاعة العرب بوصفه أحد المشاركين في المؤتمر العالمي للكتاب والفانين السود المنعقد بباريس فأختلط عليها الأمر.
وبالطبع فمفهوم فانون للزنوجة هي جزء لا يتجزأ من مفهومه الخاص للهوية الثقافية الأفريقية ورغم أنه لا يرفض الزنوجة ولا يحاول التهرب منها حتى ولو أنه إنتقدها . وبحسب القراءة التي قدمها الشاعر والناقد الثقافي الجزائري أزراج عمر الكاشفة عن ( مأزق النوسطالجيا الثقافية الفانونية ) فإن فانون يقول أزراج عمر إنتقد الزنوجة ردا على برنامج زميلة ليبولد سانغور الشاعر والرئيس السينغالي الذي قرر أن يضمن الزنوجة في المنهج التعليمي السينغالي . هذا ما مكن أزراج عمر من الوعي أن فانون "لا يرفض دراسة الأسباب التاريخية للزنوجة ولكنه يرفض الزنوجة بوصفها محاولة لخلق وعي أسود موحد على إعتبار أن الزنوجة مفهوم تكتيكي تم نحته في الظروف الإستعمارية لاغير .. " (34) .
وهذا بحد ذاته بعد آخر من أبعاد الهجنة أو الهجنة الهوياتية تلك التي أربكت مريامة قبل أن تصدق حقا أنه هو نفسه الطبيب الذي سمعت صوته في إذاعة العرب بوصفه أحد المشاركين في المؤتمر العالمي للكتاب والفانين السود المنعقد بباريس ومن داخل هذه الهجنة هناك هجنتان ثقافيتان الأولى هجنة فلسفية تعني المسار الثقافي التكويني لشخص فانون منذ أن كان طالبا بالجامعة الفرنسية تتعلق بما يسميه الناقد الهندي ما بعد الكولونيالي هومي بابا ( الإغتراب الكولونيالي ) الممارس على فانون بإعتباره ذاتا منشطرة بين الهنا والهناك وأن هذا الإنشطار يولد حسب هومي يابا قلقا في " بحث فانون عن شكل مفاهيمي يلائم ما تنطوي عليه العلاقة الكولونيالية من تناحر إجتماعي " (35) فنصوص فانون ومقالاته والشهادات التي قدمها في المحافل الإفريقية والدولية تنشطر بحسب هومي بابا بين "دياليكتيك هيغلي ماركسي وتأكيد ظاهراتي على الذات والآخر وتحليل نفساني للاوعي " (36) فهو في بحثه عن ( العشب بين الحجر ) بتعبير جيل دولوز أو ( ديالكتيك الخلاص ) بمفهوم هومي بابا يمزقه القلق الذي لا ينتهي ولا يمده بأي أمل أو بارقة أمل ومع ذلك فهو يأبى الإستسلام للقدر الكولونيالي ويحاول ما إستطاع علاج جرحين الجرح الأول هو جرح مريامة / وهو جرح كولونيالي بالطبع فيما الجرح الثاني فهو الجرح الأنتيلي معبر عنه بلغة هومي بابا عندما تجرح فانون " تلك النظرة المحدقة لطفلة بيضاء خائفة ومضطربة وتجرحة تلك الصورة النمطية للمواطن المحلي المثبتتة على الحدود بين البربرية والحضارة ويجرحه الخوف الذي لا يستكين والرغبة التي لا تهدأ حيال الزنجي" (37) .
أما الهجنة الثانية فهي هجنة سردية تتمظهر في لغة الخطاب الروائي عند جيجيقة براهيمي عندما تلجأ الساردة إلى إستعارة لغة فانون لغة السرد الرسائلي المدرج في النص الروائي كتلك الرسائل التي أرسلها فانون إلى والديه وكان عمره آنذاك لا يتجاوز العشرين سنة عندما إنخرط سنة 1945 في صفوف الجيش الفرنسي دفاعا عن فرنسا ضد النازية .
هذه المفارقة التي جعلته يعقد أوجه المقارنة التي قادته إلى التأمل في مصيره وهو ينخرط مرة ثانية في صفوف الثوار الجزائريين للنضال ضد الكولونيالية الفرنسية بوصف السرد الرسائلي سرد يتخلل بعض طيات الخطاب الروائي ويطعمها بما يسميه ميخائيل باختين التهجين السردي بإعتباره هجنة قصدية مثلما يقول باختين ويفرق باختين بينها وبين الهجنة التاريخية والعضوية والتي يرى أنها غامضة لسانيا ويمكن القول مع باختين أن الهجنة السردية هي " مزج لغتين إجتماعيتين داخل ملفوظ واحد وهي إلتقاء وعيين لسانيين مفصولين بحقبة زمنية وبفارق إجتماعي أو بهما معا " (38) .
لكن هذه الهجنة أيضا تضع الروائية جيجيقة براهيمي أمام إشكالية لغوية مفهومية تطال خصوصية السرد النسوي بإعتبار هذا النص الروائي هو من إبداع إمرأة عربية خاصة وأن اللغة لغة الكتابة الإبداعية ليست بريئة تماما وأنها تخفي داخلها بعض قوى مستعمليها بكل إحالاتها الدلالية والسيميائية التي تتناص مع الأنساق الثقافية الرمزية المهيمنة والكامنة فيها وفي دوالها وتشاكلاتها النصية " حيث تعمد بعض الخطابات النسوية إلى الاحتفاظ بمركزية المثول الرجالي فحينما تفكر المرأة هنا تفكر بعقل الرجل وتستخدم لغته ومعاييره وتستعير اهتماماته فتغيب اعتباراتها وتقصيها بل وقد تصل إلى استخدام نفس تمثيلاته انتصارا لموضعيته المركزية " (39) ومهما يكن من أمر فأنا لا اريد أن أعقد أوجه المقارنة بين لغة جيجيقة براهيمي واللغة التي تستعيرها من فانون للتعبير عن همومه عبر صيغة السرد الرسائلي لكني أريد أن أنبه للإلتباس الذي يمكن أن ينشأ بين لغتين لغة السرد النسوي واللغة المستعارة من ذات أخرى هي ذات فانون . وهو أمر من الصعب التغلب عليه في ظل شبكة التداخل اللغوية بين الذوات المتكلمة في النص الروائي رغم أن هذا التداخل بين الذوات المتكلمة في النص الروائي له مزاياه فهو الذي يمكن الرواية من إكتساب خصوصية الإنفتاح السردي والتداول الحواري بالمعنى الباختيني تماشيا مع فلسفة ( دميقراطية التمثيل ) تمثيل الشخوص الروائية في المجتمع التخييلي للرواية التي نص عليها ناقد ثقافي بريطاني هو رايموند وليامز وهذا بحد ذاته أمر جيد .
وفي الوقت الذي كان فيه فانون مثلما جاء في نص الرواية على سرير المرض لتلقي العلاج من مرض السرطان في واشنطن بدعم من الحكومة الجزائرية المؤقتة التي أوفدته إلى واشنطن بعد أن غادر مستشفى جوانفيل بالبليدة وإطمأن على حالة مريامة مرخصا لها بمغادرة المستشفى وهو الذي قضى بعدها سنوات قليلة من النضال في صفوف الثوار الجزائريين كانت نورسين تحاول وأد مريامة في القبر الذي حفرته لها في هذا الوقت بالذات كان مقران ووالده موح الشريف وعدد من المجاهدين ومعهم زوجة جاك التي فقدت هي الأخرى إبنها ألبير بتواطئ بين نورسين وروبرت خاصة وأن ألبير كان صديقا وفيا لمريامة الذين شكلوا خلية للدفاع عن أسرهم ولأخذ ثارهم من جاك ونورسين وروبرت ومن معهم .
إنها لحظة الثأر الذي أعدها مقران وكان ينتظر الفرصة المناسبة ليثأر لشقيقته مريامة حتى ولو أن جاك قد أشرف على الجنون قبل أن ينال حقه أمام مريامة التي إستيقظت على وقع خبر نقل طبيبها فرانز فانون إلى واشطن لتلقي العلاج من مرض السرطان الذي داهمه وهو في مقتبل العمر.
أنجز مقران ووالده موح الشريف وزوجة جاك المهمة بعزم وإرادة فولاذية معبرا عن إرادة هي إرادة (الوطنية الريفية ) بمفهوم مصطفى الأشرف وعمار بلحسن تمييزا لهما عن نواة أخرى هي ما يسميه السوسيولوجي الجزائري عمار بلحسن " نواة الوطنية الحضرية كإيديولوجيا عصرية تعبر عن رؤى وتصورات الطبقات الوطنية الجزائرية التي أفرز التدمير الكولونيالي لحظتها الثانية " (40) هذا ثأر هو الثأر الإجتماعي الذي تجيزه الأعراف الإجتماعية كما تشكلت في المخيال الإجتماعي العربي أما الثأر الآخر فهو الثأر الثقافي الذي يتجلى في عدد من نصوص الرد أو ( النص النقيض ) ممثلا في رواية ما بعد الكولونيالية ومنها هذا العمل الروائي ( فرانز فانون ) لجيجيقة براهيمي للحد من أثر ( الهيمنة بالتخييل ) بمفهوم وحيد بن بوعزيز على صعيد فن الرواية الذي إستخدمته الأمبريالية الثقافية لتسويغ عناصر قوتها العسكرية المتناغمة مع قوة الخطاب الثقافي الفلسفي والنقدي والروائي وأصداءه الطاغية على عدد من التناولات الساذجة لمفهوم الخطاب الروائي في بعده الشكلاني التقني كبعد يتم فيه تغييب الأنساق الثقافية المضمرة خلف إرادة السارد بنوع من ( العمى الثقافي ) التي يتردد صريحا في أطروحة عبد الله الغذامي عن النقد الثقافي بوصف العمى الثقافي " علامة على تمكن النسق فينا حتى يعمينا عن النظر في العيوب النسقية للخطاب " (41) وهي كثيرة بلا شك. وريما كان الأمر يحيل إلى ذاك الذي سماه إدوارد سعيد (الذبح البلاغي ) الممارس على الذات غير الأوربية على صعيد الخطاب الروائي الغربي الممثل لنصوص الإمبريالية الثقافية أو ( الهيمنة بالتخييل ) يتعبير وحيد بن بوعزيز .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق