الاستثمار مفردة اقتصادية لكنها يمكن أن تشمل جميع النشاطات الفردية والجماعية، فعلى مستوى الاقتصاد يتعلق الاستثمار بالإنفاق الرأسمالي على المشروعات الجديدة في قطاعات المرافق العامة والبنية التحتية، مثل مشروعات شق الطرق الرئيسية والفرعية ومشروعات تمديدات المياه، وتمديدات الصرف الصحي وتهيئة المخططات العمرانية، ومشروعات البناء والإسكان، وتمديدات الكهرباء وتوليد الطاقة ومضاعفة كمياتها وتنويع صادرها.
كذلك إنجاز وتطوير مشروعات التنمية الاجتماعية في مجالات التعليم والصحة والاتصالات، بالإضافة إلى المشروعات التي تتعلق بالنشاط الاقتصادي لإنتاج السلع والخدمات في القطاعات الإنتاجية والخدمية، كالصناعة والزراعة والإسكان والصحة والتعليم والسياحة، ويُعرَّف الاستثمار أيضا على أنه إضافة طاقات إنتاجية جديدة إلى الأصول الإنتاجية الموجودة في المجتمع لإنشاء مشروعات جديدة أو التوسع في مشروعات قائمة.
هذا على المستوى العلمي والجمعي لمفردة الاستثمار، وسياقنا في هذه الكلمة يتعلق باستثمار الوقت بصورة صحيحة، لاسيما من قبل الأفراد، لأن محصلة النشاط الجمعي بمختلف توجهاته، ينتهي إلى تحديد الحصيلة النهائية لنشاطات المجتمع، لذلك يجب التنبّه إلى طبيعة النشاط الفردي، والتعامل الجيد مع الوقت وتلافي الأخطاء الفردية في هذا السياق حتى نتحاشى الخسائر الفردي التي تنتهي إلى خسائر جماعية للمجتمع.
توجد أهداف فردية تستحق أن نصرف عليها أوقات ثمينة، وعكس ذلك تماما هنالك أفراد يقتلون وقتهم الثمين في توافه كثيرة لا تخدم الفرد ولا المجتمع، ولكي نتجنب الوقوع في مثل هذه المحاذير، يجب أن يتعلم الفرد كيفية استثماره لوقته وطاقاته كي يبلغ الأهداف التي يخطط لإنجازها.
وتأتي نتائج هذا الاستثمار من حيث الجودة أو الرداءة في المحصلة النهائية للنشاط الفردي، فقد تكون جيدة وتسهم في إنجاز أدق وأسرع وأفضل للإنجاز، أو قد يحدث خلاف ذلك، فنتائج استثمار الوقت من قبل الفرد ترتبط بطريقة هذا الاستثمار، وهذا يتطلب تنظيم جدول زمني يزيح الأهداف الهابطة من قائمة الأعمال ويركّز على الأفضل وعلى ما يستحق قيمة الوقت الثمينة.
ضع جدولا زمنيا لإلغاء التوافه
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (فلسفة التأخّر):
على الإنسان (أن يضع جدولاً زمنياً لإلغاء التوافه، واستثمار وقتها لإنجاز الأعمال التي توصله إلى أهدافه الكبرى، وكلما استطاع الإنسان أن يعمل الأفضل فهو في طريقه لتحقيق الإنجازات المنشودة).
جميع الأهداف بحاجة إلى وقت، بعضها يُنجَز في وقت قياسي، وآخر يستغرق وقتا طويلا، وهذا يتبع طبيعة الأفكار التي تتعلق بإنجاز المشاريع والتخطيط لها، كذلك يتعلق بخطوات الانجاز ومدى صحّتها ودقتها وجودتها، فهناك أفكار يمكن أن تؤدي إلى الإنجاز السريع الذي لا يمس درجة الجودة والدقة والإتقان.
فلا فائدة من سرعة إنجاز الأهداف على حساب الجودة، هذا ما ينبغي أن نتنبّه إليه كأفراد أو حتى مؤسسات ونحن نحث الخطى كي ننجز أهدافنا وأعمالنا، ولكن قضية الإنجاز تتعلق بطبيعة الأفكار والتخطيط الذي تقوم عليه ركائز وخطوات العمل، وكلما كانت الأفكار جيدة دقيقة نابعة من عقول متخصصة وخبرات متمرسة، تكون النتائج جيدة أيضا، لذلك يجب الحرص على إتباع الأفكار الناجحة.
الإمام الشيرازي أكّد ذلك في قوله:
(بعض الأفكار والأقوال والأعمال، مثلها مثل بذور الخيار والباذنجان، تعطي الثمر بعد ثلاثة أشهر، وبعضها مثلها مثل بذور البرتقال والكمثرى تعطي الثمر بعد سنوات).
وطالما أن كلمتنا هذه تخص النشاط الفردي أولا، ومدى التزامه في استثمار الوقت جيدا، والمواءمة بين طبيعة الأهداف والزمن الذي يستغرقه إنجازها، فإننا لابد أن نرصد طبيعة الأهداف التي يخطط لها الأفراد، فهناك من تغريه القضايا الهابطة والمشاريع الجوفاء، فيضيّع وقته ويهدره دون طائل، لكن هناك من يخطط لإنجاز أهداف رفيعة المستوى ولا تشغله التوافه.
خطوات لضمان الإنجازات التقدمية
بعضهم قد يكون قادرا على التخطيط الناجح، ويمكنه تحقيق الأهداف الجيدة وكسب المكانة الرفيعة، لكن مشكلة هؤلاء أنهم يكتفون بمرتبة محدّدة من النجاح ولا يطمحون إلى ما هو أعلى وأفضل، هذا يتسبب بإهدار للوقت والطاقات، أما إذا لم يحدد الإنسان سقفا معينا لطموحه وأهدافه، فإنه في هذه الحالة يُحسب على الأفراد التقدميين الذي يسهمون بأفكارهم وإنجازاتهم في تقدم مجتمعاتهم ولا يهدرون وقتهم الثمين في قضايا ومشاريع يظنها كبيرة لكنها في الحقيقة تافهة.
الإمام الشيرازي يؤشّر هذه الحالة فيقول:
(بعض الناس ليس له هدف، وبعضهم له هدف وضيع، وبعضهم له هدف رفيع لكنه قادر على الأرفع، هذا كله من سمات التأخر، لذا يجب أن يستهدف الإنسان أرفع الأهداف، ويهيئ أسبابها ويسير إليها، وبذلك يكون إنساناً تقدمياً).
في مجتمعاتنا المتأخرة نسبيا نحن في أحوج ما يكون لاستثمار الوقت، لاسيما على المستوى الفردي، فالمجتمع المتقدم حقّق هذه الدرجة المتميزة من خلال الجهود الرصينة التي بذلها أفراده المتميزون بالاستثمار الأمثل للوقت والتخطيط العلمي الدقيق، وعدم التضحية بالوقت والجهد بلا طائل.
النقطة الأهم في هذا الجانب هي إبعاد اللامبالاة في التعامل مع حيثيات الإنجاز، وتجنب هدر الوقت بلا مقابل، وعدم التوقف عند درجة معينة من الطموح، والنظر إلى الدرجة الأرفع والأكثر علوّا، والمساهمة في تقدم المجتمع من خلال المنظور الفردي، وعدم استصغار دوره، صحيح هو دور صغير إذا تعلق بحدود الفرد وانتهى عندها، لكننا في حالة جمع جهود الأفراد التقدمية فإننا سوف نحصل على مجتمع تقدمي متميز.
هذا الأمر يحتّم على الأفراد تحاشي تكرار الأخطاء نفسها وهم يسعون إلى أهدافهم، فمن غير المقبول ولا المبرَّر أن يكرر الفرد أخطاءه في مسعاه التقدمي للارتقاء بنفسه وبالمجتمع، وعلى الفرد أن يبالي كثيرا بأهدافه ووقته وبما يخطط له، ويبتعد عن التعامل العبثي العشوائي أو غير العابئ بالسلبيات، فيتركها تتراكم مع الوقت لتصبح بعد ذلك عقبات لا يمكن تجاوزها.
الصحيح هو إزاحة السلبيات وهي صغيرة أو قليلة، وعدم السماح لها بالزيادة التراكمية التي تجعلها غير قابلة للزوال، ومن ثم خسارة فادحة في مجال الإنجاز، وهدر الوقت وضعف استثماره بالمستوى الذي يقود الفرد إلى مراتب أعلى شأنا، وانعكاس التقدم الفردي على التقدم المجتمعي.
لهذا يحذّر الإمام الشيرازي من (عدم المبالاة فيما يخص تجمّع الأخطاء والمساوئ وتراكم السلبيات حيث يُحسَب هذا من ضمن فلسفة التأخر، لذلك لابد أن يدرك الإنسان هذا الأمر ويتحاشى تكرار الأخطاء وحصول المكروه، ولكن إن حصل يجب دفعه وتلافيه فوراً، وإلاّ فالقطرات تكوّن السيول الجارفة). والأخطاء الصغيرة حين تتجمع مع بعضها تصبح مهلكة بل قد تكون قاتلة.
على كل فرد تقدمي أن يضع بنفسه (أو يبحث) عن خارطة طريق تقوده إلى مرتبة عالية من التفوق والنجاح والتقدم، وهذا يقترن بعدم هدر الوقت واستثماره جيدا، مع رصد الأخطاء وعدم تكرارها، والترفّع فوق التوافه، والإيمان بأن الإنجاز الفردي هو حجر الزاوية في تقدم المجتمعات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق