قبل أن يخاطب ترامب حلفاءه في البيت الأبيض رفع بيديه صحيفة "واشنطن بوست"، التي يتهمها دائما بأنها من أبرز مروجي الأخبار "الملفقة" عارضا عنوانها العريض المؤلف من كلمتين: "تبرئة ترامب".
ارسل عبر وسائل التواصل
هشام ملحم/
10 فبراير، 2020
فور تصويت مجلس الشيوخ الأميركي بعد ظهر الأربعاء على تبرئة الرئيس دونالد ترامب من تهمتي إساءة استخدام صلاحياته الدستورية وعرقلة تحقيقات الكونغرس، بدأ ترامب موسم تصفية الحسابات والثأر من الديمقراطيين والمسؤولين الذين شهدوا ضده في جلسات الاستماع التي سبقت المحاكمة، ومن الجمهوري الوحيد الذي تجرأ على التصويت لعزله من منصبه: السناتور مت رومني.
خلال جلسات المحاكمة التي سبقت تبرئة ترامب، حذّر البيت الأبيض كل عضو جمهوري في مجلس الشيوخ: "إذا صوّت ضد الرئيس، فإن رأسك سوف يوضع فوق الرمح". سوف يكتب المؤرخون في المستقبل أن الرئيس الأميركي في بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، بعكس أسلافه، كان يتلذذ علنا بترهيب خصومه ويحتفل في البيت الأبيض "بانتصاره"، ولو كان وهميا، ضد منافسيه الديمقراطيين الذين يحولهم إلى أعداء "وأشرار" يسعون تقريبا إلى "تدمير" البلاد، ولذلك لن يعود من المستغرب أن يدخل ترامب في مزاجه القرون وسطوي وأن يهدد بوضع رؤوس أعضاء مجلس الشيوخ من الجمهوريين على الرماح إذا تجرأوا على التصويت على عزله من منصبه.
عندما برأ مجلس الشيوخ الرئيس الأسبق بيل كلينتون في 1999 من تهمتي الكذب بعد قسم اليمين وعرقلة العدالة، خاطب كلينتون الأميركيين من حديقة الزهور في البيت الأبيض وأعرب عن أسفه العميق لسلوكه المحرج كرئيس للبلاد، ودعا الأميركيين إلى "الوفاق"، ولم يتطرق بشكل مباشر أو غير مباشر إلى الانتقام من خصومه.
ينسجم سلوك ترامب الانتقامي مع سجله القديم والطويل وميله لمعاقبة كل من يقف في طريقه
ولكن ترامب، بعد ساعات قليلة من تبرئته، وقف صباح الخميس في حفل الفطور السنوي للصلاة الذي يشارك فيه ممثلين عن جميع الأديان وكبار السياسيين والشخصيات العامة للحديث عن التسامح والمحبة والوفاق، وحوّل الحفل إلى منبر للاحتفال بنفسه وبراءته ولتوجيه الانتقادات القاسية والضمنية لرئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي والسناتور رومني واتهمهما باستخدام الدين والتدين "كعكاز" لتبرير سلوكهما المشين حسب قوله.
بعد ظهر الخميس، تحول البيت الأبيض إلى مسرح سريالي وغريب، حتى بمقاييس إدارة ترامب الغريبة أصلا. ترامب دعا إلى البيت الابيض جميع أعضاء الكونغرس المقربين منه والذين دافعوا عنه خلال محاكمته "للاحتفال" بتبرئته، ولإعلام خصومه بأنه سيتعقبهم وسوف يحاسبهم على مواقفهم وينتقم منهم.
وعلى مدى أكثر من ساعة من التصريحات الارتجالية ـ رمى ترامب النص الرسمي الذي وضعه المكتب الإعلامي للبيت الأبيض ـ وطرح نفسه أمام أنصاره كضحية مظلومة ومستهدفة من الديمقراطيين منذ لحظة إعلانه عن ترشيح نفسه لمنصب الرئاسة.
وفي هذا السياق أدان ترامب المشرعين "الأشرار" و"المحتالين"، والمسؤولين البارزين "القذرين" في مكتب التحقيقات الفدرالي (الأف بي آي) الذين يعتبرهم ترامب من أبرز ممثلي "الدولة العميقة" الذين يتهمهم بمحاولة التخلص منه.
وقبل أن يخاطب ترامب حلفاءه في البيت الأبيض رفع بيديه صحيفة "واشنطن بوست"، التي يتهمها دائما بأنها من أبرز مروجي الأخبار "الملفقة" عارضا عنوانها العريض المؤلف من كلمتين: "تبرئة ترامب". طبعا هذه المرة الصحيفة لا تروج الاخبار الملفقة.
وتدفق الكلام من فم ترامب لأكثر من ساعة وكان يتأرجح بين التهديد بالانتقام من أعدائه الحقيقيين والمتخيلين من جهة، وبين كيل المديح والثناء والإعجاب والغرام على مؤيديه في الغرفة ذاكرا أسماءهم ومزاياهم وما فعلوه لمساعدته وحمايته.
المشهد كان في البيت الأبيض، ولكنه بدا وكأنه مستعار من أي قصر لحاكم أوتوقراطي متسلط في بلد أفريقي أو شرق أوسطي أو في آسيا الوسطى يرمي فيه الحاكم الورود لمحبيه ـ أو للخانعين والخائفين منه ـ وملوحا بالسيف باليد الأخرى لترهيب أعدائه.
أظهرت محاكمة ترامب بشكل لا لبس فيه مدى سيطرة الرئيس على الحزب الجمهوري، ومدى خوف بعض المشرعين الجمهوريين من ترامب، ورغبتهم بتفادي مواجهته أو حتى توجيه أي نقد لطيف أو معتدل له.
وفي اليوم التالي بدأت رؤوس أعداء ترامب ـ والأصح من يعتبرهم ترامب أعداءه ـ بالتدحرج. وأول الضحايا كان المسؤول العسكري في مجلس الأمن القومي الكولونيل ألكسندر فيندمان الخبير في شؤون أوكرانيا والذي مثل أمام لجنة الاستخبارات في مجلس النواب ليؤكد مضمون المكالمة الهاتفية التي أجراها ترامب مع رئيس جمهورية أوكرانيا فلودومير زيلينسكي والتي ربط فيها ترامب الإفراج عن صفقة الأسلحة لأوكرانيا بالتحقيق بنائب الرئيس جو بايدن ونجله.
إقالة الكولونيل فيندمان من منصبه في مجلس الأمن القومي كان عملا انتقاميا بحتا. وللتدليل على أن ترامب يريد معاقبة فيندمان لمجرد معاقبته، قرر أن يقيل شقيقه التوأم يفغيني الذي يعمل أيضا في مجلس الأمن القومي، ولكن لم تكن له أي علاقة بملف أوكرانيا أو شهادة شقيقه ألكسندر. الانتقام لم يكن من ألكسندر فيندمان، بل من عائلة فيندمان.
وبعد ذلك كشف البيت الأبيض أن ترامب قرر استدعاء ممثله لدى الاتحاد الاوروبي غوردون سوندلاند الذي كان ترامب قد عينه في منصبه، بعد أن تبرع بمليون دولار للجنة تنصيب ترامب رئيسا. وكان سوندلاند قد أدلى بشهادة أكدت الحجج التي قدمها فريق الادعاء خلال محاكمة ترامب. وقبل 10 أيام كشفت ماري يوفانوفيتش آخر سفيرة أميركية لاوكرانيا عن تقاعدها من وزارة الخارجية.
وكان البيت الابيض قد استدعى يوفانوفيتش من أوكرانيا في الربيع الماضي بعد حملة لتشويه سمعتها قادها محامي الرئيس ترامب، رودي جولياني لأنها وقفت ضد تدخله المشبوه لزج أوكرانيا في الانتخابات الأميركية لصالح الرئيس ترامب. وحتى الآن استقال أو أقيل أو تقاعد معظم الشهود الرسميين الذين مثلوا أمام لجان الكونغرس خلال تحقيقاتها بسلوك الرئيس ترامب وعلاقته بأوكرانيا.
إقالة الأخوين فيندمان من منصبيهما في مجلس الأمن القومي، واستدعاء السفير سوندلاند من أوروبا، أثار مخاوف وقلق الكثيرين في الأجهزة الحكومية، لأن ترامب يتصرف بطريقة انتقامية لم يجرؤ عليها حتى الرئيس ريتشارد نيكسون الذي انتهك القوانين بشكل سافر خلال فضيحة ووترغيت في أوائل سبعينيات القرن الماضي.
أظهرت محاكمة ترامب بشكل لا لبس فيه مدى سيطرة الرئيس على الحزب الجمهوري
بعض الأعضاء الجمهوريين في مجلس الشيوخ أعربوا عن أملهم أو توقعاتهم بأن لا يلجأ ترامب إلى الانتقام بعد تبرئته، ولكن من الواضح أن هؤلاء كانوا يتحدثون عن تمنياتهم فقط.
ينسجم سلوك ترامب الانتقامي مع سجله القديم والطويل وميله لمعاقبة كل من يقف في طريقه. تصرفات ترامب في الأيام التي أعقبت تبرئته في مجلس الشيوخ تعني أن الأشهر التي تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل سوف تكون حافلة بالمواجهات بين الرئيس المنتصر والديمقراطيين، الذين يسيطرون على مجلس النواب، وأن المواجهة سوف تأخذ أشكالا مختلفة من تحقيقات جديدة للجان المجلس إلى رفع الدعاوى ضد الحكومة التي ترفض التعاون مع لجان الكونغرس.
وبعد المناوشات الأخيرة بين ترامب وبيلوسي (رفض مصافحتها، ثم مزقت نسخة من خطابه حول حالة الاتحاد) فإن فرص لقائهما أو تعاونهما مرة أخرى قبل الانتخابات، ستكون مستحيلة أو شبه مستحيلة، ما يعني أن الذين يأملون بالحد من تصرفات ترامب سوف يصابون بخيبة أمل كبيرة.
ولا يوجد بين كبار مستشاري أو مساعدي ترامب شخصيات قوية يمكن أن تحاول ضبط ترامب كما حاول في السنوات الثلاثة الماضية بعض المسؤولين البارزين الذين إما استقالوا أو أقيلوا من مناصبهم.
نرجسية ترامب وغطرسته سوف تزداد سوءا، وسوف يزداد عشقه لنفسه، كما سيزداد جنوحه للانتقام من خصومه. ولذلك لم نجد أفضل من وصف هذه الحقبة الجديدة من حياة دونالد جون ترامب وحياة الولايات المتحدة، بعد أن برأه مجلس الشيوخ بـ: غرام وانتقام في بلاد ترامب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق