ربيع الوعي العربيالتغييرات الايجابية في الواقع العربي، وتحديدا المطالبة بالدولة المدنية، من الصعب ان لم يكن من المستحيل اسقاطها كوصفة طبية.
الوعي والاصلاح يأتيان عادة بشكل تراكمي وحصيلة للتجارب والخبرات التي يمر بها الفرد او المجتمع، وهذا ما يمكن ملاحظته جليا في المظاهرات التي اندلعت في عدد من البلدان العربية بعد ثماني سنوات مما عرف بثورات الربيع العربي عام 2011 والتي لا تزال اثارها ونتائجها مستمرة حتى اليوم وستبقى لسنوات قادمة في البلدان التي وقعت فيها والعالم العربي بشكل عام. وبغض النظر عن المواقف المؤيدة والمعارضة لها فأنها حقيقة لا يمكن تجاهلها وتاريخ نعيشه جميعا له ما قبله وما سيأتي بعده. الا انه في احداث الربيع العربي عام 2011 كانت قوى التغيير تسعى الى اسقاط الانظمة الحاكمة فقط، معتبرة ان تغيير النظام هو مفتاح لتغيير كافة الاوضاع الخاطئة في بلادها، ومقدمة لتحقيق آمال شعوبها، وسيادة العدالة الاجتماعية.
كانت تلك النظرة قاصرة بكل المعايير التاريخية والعلمية. فالتاريخ السياسي البشري مليء بالثورات التي اعادت انتاج الاستبداد مرة اخرى، ولم تحقق اية نتائج لصالح الشعوب، ذلك ان الدولة ليست سوى مؤسسة من مؤسسات النظام السياسي. فالحكومة والمعارضة وعامة الشعب، يمارسون نشاطهم السياسي وحقوقهم السياسية من خلال قوانينه وسننه ومعطياته، وهو في النهاية ليس سوى نظام من عدة انظمة تدير البيئة البشرية، وهذا ما حدث في العديد من البلدان، فالثورة الكوبية بقيادة فيدل كاسترو عام 1959 انتجت نظاما شيوعيا ديكتاتوريا، حرم مواطنيه من ابسط حقوقهم، وفي اريتريا بعد تحريرها من الاحتلال الاثيوبي قام فيها نظاما تسلطيا بقيادة أسياس أفورقي.
فأحداث الربيع العربي افرزت نفس النتائج تقريبا، ففي مصر عاد الجيش ليقود الدولة في مصر مرة اخرى، ولم تنجح ثورة يناير في التحول المدني، وليبيا انقسمت ما بين سلطة الشرق بقيادة العسكريين، وما بين سلطة الغرب بقيادة مجلس سياسي تحيط به قوى مسلحة تتحرك خارج نطاق سيطرة الدولة، وفي اليمن تمكن الحوثيون من الاستيلاء على السلطة في الشمال والقفز على كافة معطيات ثورة الشباب اليمني عام 2011، وفي الجنوب تسيطر الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا وتعاني من منافسة قوى سياسية وعسكرية موازية، ويخوض الطرفان حربا منذ خمس سنوات حتى الان، وفي سوريا اندلعت انتفاضة ضد نظام الرئيس بشار الاسد، سرعان ما تحولت الى حرب اهلية مدمرة، وتمكن النظام السوري بمساعدة من الحكومة الروسية من سحق الانتفاضة، والقضاء على معظم القوى المسلحة واستعادة مساحة كبيرة من اراضي البلاد، واعاد تثبيت اركان النظام الشمولي القمعي، ولم يعد هناك امل في اي تغيير سياسي لصالح الشعب السوري.
وحدها تونس تمكنت من تأسيس ديمقراطية فاعلة، وذلك لأسباب عديدة، من اهمها الوعي الشعبي الكبير تجاه مفهوم الدولة المدنية، والنظام المدني الجامع، الذي افرز قوى مدنية حقيقية وتيارا شعبيا عريضا مؤيدا لها، وعدم تدخل الجيش التونسي في ادارة الدولة منذ استقلالها، وعدم تدخل مؤثر لأي قوى خارجية معادية للتحول الديمقراطي في البلاد، وفشل القوى السياسية التي عادت من الخارج بعد الثورة في ادارة المرحلة الانتقالية، مما ساهم في تحقيق الهدف الاكبر من ثورة الياسمين وتأسيس نظام مدني واعد.
المظاهرات التي اندلعت في عامي 2018-2019 يمكن القول بأنها موجة ثانية لأحداث الربيع العربي، التي كانت نتائجها من اهم العوامل في تكوين وعي عربي جديد. فقد خرج الشباب السوداني في مظاهرات واسعة لا تطالب برحيل نظام الرئيس عمر البشير وحسب، بل بعودة المدنيين لإدارة شئون البلاد، وعودة الجيش لممارسة دوره في الدفاع والامن، وعودة علماء الدين للمساجد والجوامع، وان ادارة الدولة منوطة فقط بالقوى المدنية، وانه حتى لو فشل من انتخب منها في اداء مهامه فأن دور الشعب اختيار شخصية اخرى لا ان تأتي شخصية او جماعة عسكرية او دينية لتمارس مهمة ادارة الدولة، فالمؤسسات الدينية والعسكرية جزء من الدولة لا احدى سلطاتها الرئيسية. هذا التحول في الوعي ليس عاديا لدى الشباب السوداني، انه عميق وثري. نعم قد يكونوا يعرفونه على صعيد النظرية، من خلال شبكة المعلومات التي اصبحت جزء من حياتهم وساهمت في التأسيس لثقافة جديدة لديهم، الا انهم باتوا يدركون ضرورة تأسيس دولة مدنية حقيقية، تاريخ السودان مليء بالصراع بين المدنيين والعسكريين وتعاقب السلطة بينهم، الا ان الشباب السوداني اليوم ادرك ان الحكم المدني لا يجب ان يكون تجربة او خيار بل حتمية للسودان الجديد.
وقد بدء السودان الذي يتشارك في ادارته كلا من العسكريين وممثلي القوى السياسية التي قادت التظاهرات ضد حكم البشير في التأسيس لمنظومة مدنية، فقد الغي قانون "النظام العام والآداب العامة" الذي حكم بموجب مواده على الاف الشبان ذكور واناثا بالجلد والسجن.
في الجزائر لم يرضَ المتظاهرون بتقديم الرئيس بوتفليقة لاستقالته، ولا بكل التنازلات التي قدمتها السلطة، ووفقا للإحصائيات فقد شارك 30% من المواطنين في الانتخابات الاخيرة التي فاز فيها الرئيس عبدالمجيد تبّون، حيث بات الشعب الجزائري يدرك بعمق الواقع السياسي في بلاده، فالشبان الجزائريون يطالبون بإصلاحات جذرية حقيقية تفضي الى تأسيس نظام مدني يترك فيه الجيش قيادة الدولة لصالح السلطة التنفيذية المنتخبة، والاهم من ذلك فقد تعلموا من تجارب احداث الربيع العربي الاولى واحداث عام 1991 ان الدولة يجب ان تقودها احزاب مدنية ولفترات دستورية مؤقتة، وان الاحزاب الشمولية كالجبهة الإسلامية للإنقاذ لا مكان لها في جزائر اليوم والمستقبل، لذلك قاطع معظم الجزائريين الانتخابات الاخيرة لأنها تجرى تحت مظلة النظام القائم الذي يقوده الجيش.
وفي العراق خرجت مظاهرات واسعة النطاق تطالب بإصلاحات شاملة في البلاد، ومكافحة الفساد، وانهاء المحاصصة الطائفية، وحل الميلشيات المسلحة، وتخليص العراق من النفوذ الاقليمي، والتأسيس لدولة مدنية حقيقة، تقودها احزاب وطنية عراقية.
لم يكن الشبان العراقيون يطالبون برحيل حكومة عادل عبدالمهدي فقط، بل برحيل الاحزاب الدينية التي فشلت في ادارة شئون البلاد منذ 2003، وتشكيل حكومة انتقالية مهمتها الاعداد لقانون انتخابات جديد يتيح الفرصة لنشوء قوى سياسية جديدة، تأخذ على عاتقها العبور بالبلاد الى بر الاستقرار، بعد عقود من انعدام التنمية والاعمار والحروب والصراعات الدامية على السلطة، لذلك لم يستجيبوا لكافة ما قدمته القوى الحاكمة من مبادرات، لانهم باتوا يملكون فكرا سياسيا عميقا قادرا على كشف المراوغات والحيل التي تهدف الى استمرار النظام الحالي وبقاءه.
وفي لبنان خرج الشباب اللبناني للمطالبة بإسقاط النظام الطائفي ومكافحة الفساد، بعد ان بلغت وقاحة السلطة الى حد فرض رسوم على وسائل التواصل الاجتماعي، فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير، وقد استقالت على اثرها حكومة الرئيس الحريري، ويطالب المتظاهرون بحكومة غير منتمية للكتل البرلمانية، وسن قانون انتخابات جديد يتيح الفرصة لبروز قوى سياسية جديدة، واتخاذ اجراءات عملية وفعلية لإنهاء المحاصصة الطائفية التي اوصلت البلاد الى طريق مسدود، فالحكومات المنبثقة منها عجزت حتى عن ايجاد حلول للقمامة في بيروت، والحرائق التي اندلعت في صيف 2019، وبدلا من ذلك فرضت رسوم على استخدام تطبيق الواتسب اب!
المقاول والفنان المصري محمد علي لفت نظري عندما دعا المصريين للتظاهر ضد حكومة الرئيس عبدالفتاح السيسي اذ قال: من حق الشعب ان يختار من يحكمه. ثم استدرك قائلا: من يحكمه هذا تعبير غير صحيح بل من يدير شأنه.
هذا تدارك يدل على ان الوعي في عالمنا العربي قد وصل الى مرحلة جديدة ومتميزة، وان الاثار الايجابية للتدفق الهائل للمعلومات وتبادلها على الثقافة والوعي والفكر العربي سواء النخبوي او العام، والانفتاح الحضاري والثقافي والفكري والانساني بشكل عام اصبح واقعا لا سبيل لإنكاره، بل ويمكن القول ان احداث الربيع العربي وما بعدها ادت الى سقوط هولية السلطة وفوقيتها، اي ان التابو السياسي بدا في الضمور في الوعي العربي، الذي غدا كمارد خرج من قمقمه ولن يعود اليه ابدا.
في الكويت كان ولي العهد هو المنوط به تشكيل الحكومة ثم اقتصر الامر على عضو من العائلة الحاكمة، فقد كان من المستحيل تقريبا استدعاء رئيس مجلس الوزراء للمسائلة امام اعضاء مجلس الامة باعتباره يشغل منصب ولاية العهد، ومرت الحياة السياسية بأحداث عاصفة ادت الى ابعاد المنصب عن ولي العهد واسناده لعضو من العائلة الحاكمة، حتى يمكن لرئيس الحكومة التعامل مع مجلس الامة بمرونة، وهذا لا شك فيه تطور لافت ومهم.
في المملكة العربية السعودية بدأت اصلاحات مهمة، انعكست على مختلف جوانب واتجاهات الحياة التي كانت جامدة في الكثير منها بسبب سيادة القوانين شديدة المحافظة، التي استمرت لعقود. وما ان بدأت البلاد في الانفتاح حتى تفاعل معها الشباب السعودي والمواطنون السعوديون بشكل عام، وتمكنوا من تكييف حياتهم بناء عليها. ويمكن ملاحظة تغييرات ليست بالسطحية على اساليب الحياة ومظاهرها في المملكة، والتي لم تكن موجودة في السنوات القليلة الماضية، ويمكن القول ان التحولات الايجابية في الوعي والانفتاح الضخم من خلال وسائل التواصل وشبكات المعلومات اتاحت فرصة بناء وعي حقيقي، مكن الشبان السعوديين من التفاعل مع الاصلاحات الحكومية بسرعة لم تكن متوقعة. اما العقود التي سادت فيها القيم المحافظة فلم تنجح في ثني الاجيال السعودية الجديدة على ممارسة انماط الحياة العصرية والحداثية.
التغييرات الايجابية في الواقع العربي، وتحديدا المطالبة بالدولة المدنية، من الصعب ان لم يكن من المستحيل اسقاطها كوصفة طبية، لان هناك الكثير من مراكز القوى التي ربطت مصالحها بالواقع الراهن، وتمتلك بنى تحتية ضخمة، ولا يمكن تجاهلها، ومواجهتها ستؤدي حتما الى خسائر جسيمة، لذلك فأن التغيير المرحلي الذي يمنحها فرصة التأقلم مع متطلبات المراحل المتعاقبة، ويتيح لها فرصة الانسحاب بسلام من الساحة واخلائها لقوى جديدة متوافقة مع ثقافة العصر ومتطلباته وتقنياته، هو السبيل الاكثر عقلانية وحكمة.
لا شك ان الوعي العربي يتغير تغيرا ايجابيا لافتا، وان ما نشهده في هذه المرحلة هو ربيع وعي عربي حقيقي ساهمت دون شك شبكات المعلومات والتطور الهائل في تقنياتها في بلورته وسرعة نشوئه، وكان لاستخدام تقنياتها وادواتها تأثير مباشر في مجريات الاحداث في العالم العربي خلال العقد الاخير، فوعي الشعوب بحقوقها اصبح كالطوفان في عالم اليوم ولن يتمكن احد من الوقوف امامه مهما بلغت قوته وامكانياته.
مقالات ذات صلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق