كل مرة يجلس فيها مجموعة عرب يتناقشون في مجلسهم الضيق عن الحال والأحوال في الواقع المأساوي العام، يكون محتوى الحوار والأسئلة والتساؤلات المطروحة في هذا المجلس الضيق بسقوف مرتفعة وصريحة وربما قريبة للصدق مع النفس أكثر من بوح نفس الأشخاص تقريبا في جلسة عامة أو على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى العلن.
حتى "المذهبيون" و"الطائفيون" و"العنصريون" يدركون في جلساتهم الضيقة أن ما يتمسكون به من عقائد ومقدسات وتعصب وآراء مغلقة هو ذاته سبب بؤس عيشهم تحديدا.
لسنا بحاجة إلى العودة إلى الإحصائيات الرقمية، وهي متوفرة وموثقة لمن أراد البحث الجاد عنها، لنعرف حجم النسبة الكبيرة جدا وهي أغلبية من مجموع الشباب العربي الراغب في الهجرة، أي هجرة خارج عالمه العربي المسحوق بالدم والصراعات والقهر والفقر، والطغيان.
الفشل يكون أكثر تجليا ووضوحا، عندما يعجزون عن الانتماء إلى مجتمعاتهم الجديدة
هذا الشباب العربي نفسه الذي يشكل بتناقضاته المذهبية والطائفية والعنصرية وقود كل تلك النزاعات وهو نفسه المرجل الذي يحترق لضمان دفء الطغيان والاستبداد.
في أوروبا، وبعد الأزمة السورية وموجة اللجوء الإنساني بحثا عن حياة كريمة ولو كلف ذلك البعض حياتهم وأملاكهم وأوطانهم التي تركوها، التقيت شخصيا بوافدين كانوا ضد النظام السوري، وآخرين كانوا معه، وبينهما كان هناك تلك الفئة التي كانت تريد الحياة فقط لا أكثر.
احتضنتهم دول اللجوء، وما لم يكن مثبتا على أي منهم جريمة إنسانية مثبتة، فإن غالبية هؤلاء اليوم مشاريع مواطنة أوروبية في هذه الدول، يعيشون فيها بحقوق متساوية وواجبات متكافئة، وفرص عادلة نسبيا، لقد اندمج أكثرهم بنجاح ضمن مفهوم الاندماج الحقيقي في المجتمعات والأوطان الجديدة، مقابل فشل أوطانهم الأصلية في تحقيق هذا الاندماج ولو بالحد الأدنى منه.
الشيعي والسني والمسيحي والماروني والعربي والكردي والإسماعيلي والكلداني والآشوري ولك أن تعد ما شئت من هويات مشرقنا البائس، كلنا هنا "مندمجون" أمام القانون في حاضنة الدولة المدنية والعلمانية، كلنا نلتقي باحترام مصطنع (ليس بالضرورة بود ومحبة)، أمام أي مطعم حمص وفلافل أو معجنات ومناقيش كحالة حنين ارتدادية، وما زال أكثرنا يحمل قبليته وجاهليته وتخلفه لكن لا يعلنها إلا في بيته أمام شاشة نشرة الأخبار والمحطة العربية التي تكشف ميوله "الإقصائية" المريضة.
♦♦♦
من مفارقات الهجرة والمهاجر الأوروبية، أن العرب المحافظين (بغالبيتهم المسلمة بشيعتهم وسنتهم)، ينتخبون الأحزاب الليبرالية عادة، تلك الأحزاب التي تهتم بالبيئة والكوكب الأخضر، أو تنادي بحقوق المثليين جنسيا والعلاقات المفتوحة وحقوق النساء. كل هذا لا يقرأه هؤلاء الناخبون الجدد في برامج الانتخاب، لا يرونه أصلا، هم يرون في تلك الأحزاب قوانين أكثر انفتاحا في المساعدات المالية، يرون فيها حقوق إنسان أكثر من غيرهم يهربون إليها ويلجؤون نحوها في أزماتهم الكثيرة.
هم أنفسهم، بغالبيتهم، لا يهتمون بالبيئة، ويحتقرون المثليين (ويؤمنون بقتلهم حسب الشريعة)، ويضطهدون نساءهم ويقمعون بناتهم.
في المواسم الانتخابية الأوروبية، أستمع باستمتاع وطرافة لأحاديث من أعرفهم من عالمنا العربي المحافظ والورع وهم يتداولون أسماء مرشحي الأحزاب الليبرالية والاجتماعية، مشددين على ضرورة التصويت لهم، لأسباب محصورة في المنافع المالية أو القانونية لو نجحت تلك الأحزاب في السلطة والتشريع، وحين أجادلهم (لم أعد أفعل ذلك مؤخرا) بأن تلك الأحزاب تنادي بكل ما يكفرون هم به، يكون الرد ببساطة "وما دخلنا بهم؟ هي بلادهم.. ونحن نبحث عن مصالحنا".
المصالح التي يتحدثون عنها ليست ضمن مفهوم ومنطق مصالح "الجماعة الواحدة في منظومة الدولة الواحدة".. فهذا مفهوم مدني رفيع المستوى، يهمله بعض المهاجرين لصالح أثقال من الأساطير والأحمال التي يحملونها معهم، وينتهون أمام نشرات الأخبار الدامية يتحقلون ويسبحون بالرزق العقيم، ويلعنون "الكفار" ومن والاهم، ويفشلون في كل مرة أن يكونوا مؤثرين حتى في الأوطان الجديدة وفي سياق إنساني عام.
من مفارقات الهجرة والمهاجر الأوروبية، أن العرب المحافظين ينتخبون الأحزاب الليبرالية عادة
والفشل يكون أكثر تجليا ووضوحا، عندما يعجزون عن الانتماء إلى مجتمعاتهم الجديدة، التي تبلورت فيها مفاهيم الدولة والمواطنة. المحزن هنا، أنهم تركوا أوطانهم وأهلهم وذكرياتهم محبطين بسبب عدم توفر مفاهيم المواطنة والمدنية هذه، ودولة المؤسسات.. هاجروا لغيابها.. وغابوا عنها يوم وجدت.
أحتار أين أضع شفقتي حينها.. على تلك الأوطان الجديدة أم على المفصومين بلا وعي.
طبعا، هناك استثناءات مضيئة (ومن بين نفس موجات اللجوء أيضا).. وهي محكومة بالأمل لأنها تتسع يوما بعد يوم.
♦♦♦
لا أهدف أن أدين أحدا ولا أهاجم فئة دون أخرى، لكن هي خواطر خطرت لي وأنا أتابع ـ مثل غيري ـ نشرات الأخبار العربية، وأشاهد جيلا يحاول أن يخرج من "متاهته الأعرابية" في شوارع لبنان والعراق وتونس والجزائر.
أتابع وأقارن، وأتذكر مقولة مظفر النواب الشهيرة:
".. قتلتنا الردة.
قتلتنا أن الواحد فينا..
يحمل في الداخل ضده".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق