تستعد مصر للانتقال من مرحلة رد الفعل إلى الفعل، بعد أن ظهرت في المنطقة إرهاصات لتسويات سياسية حول بعض الأزمات، قد تكون مجحفة وظالمة ومتجاوزة لحقوق دول عربية، وغير منسجمة مع القوانين الدولية، ويمكن أن تقود نتائجها إلى حرائق مستقبلية أشد صعوبة.
الاثنين 2019/10/07
تكاتفت مجموعة من العوامل أوحت لكثيرين في مصر مؤخرا أن هناك مؤامرة لإبعاد بلدهم عن التفاعلات الإقليمية، ومحاولة تشتيت انتباهها أو شغلها بهمومها الداخلية. وجاءت أزمة سد النهضة مع إثيوبيا لتعزز هذه القناعات، حيث انخرطت القاهرة في البحث عن حلول لمنع مواجهة شحّ فاضح في قضية المياه المصيرية. ولم يمعن أصحاب حديث المؤامرة في الأسباب الحقيقية التي أفضت إلى هذا المأزق، وآليات الخروج منه بأقلّ خسائر مُمكنة.
تضافر هذا التطور مع حملة سلبية تشنّها أذرع إعلامية تقليدية وحديثة لها معان كثيرة اعتبرها البعض موجّهة أساسا ضد تحرّكات الدولة المصرية خارجيّا، بالتوازي مع أبعاد محليّة خاصة بالتحريض والتخريب. وقد يكون ترويج هذا الخطاب يهدف إلى تخفيف الضغوط على الحكومة وله ظلال طفيفة من الحقيقة، وقد يكون مفتعلا لتبرير بعض الأخطاء.
يركّز حديث المؤامرة على محاولة إنهاك الأجهزة الصلبة وشَغْلها في أزمات متتالية، كي تبتعد عمّا يتم تدبيره في بعض الملفات الإقليمية المقلقة بالنسبة للمنطقة، حتى لا تملك الدولة رفاهية الاعتراض أو التحفّظ. من هنا جاء توظيف أزمة سد النهضة، إما للدخول في مساومات، وإما لاستغلالها من قبل بعض الدوائر لممارسة ضغوط تقود إلى استنزاف جانب من الجهود المصرية، ولفت نظرها عمّا يجري بشأن قضايا قريبة.
يقوم هذا الافتراض على أنّ الإدارة المصرية عندما تنهمك في مشكلة تتجاهل مشاكل أخرى قريبة أو بعيدة، وربما كان هذا الملمح صحيحا، لكن القاهرة اعتادت في السنوات الأخيرة على توزيع جهودها على المخاطر القادمة من الحدود الأربعة، إسرائيل وليبيا والسودان والبحر المتوسط، وخاضت معركة حساسة في سيناء ضد فلول متعاظمة من الإرهابيين.
هناك نظريات عديدة في الأمن القومي. بعضها يرى منح أولوية لتثبيت أركان وهياكل الدولة، ثم التطلّع نحو تثبيت المفاصل في المنطقة المجاورة، التي لها تأثيرات مباشرة. والبعض الآخر يعتقد أنّ الأمن القومي في حالة مصر يبدأ من الخارج، ثم يتمدّد نحو الداخل. وثمّة من يرون ضرورة الجمع بين النموذجين، لأن قواعد الأمن القومي باتت منفتحة على فضاءات متنوّعة.
تؤكّد المؤشّرات العامة أن مصر غلبت المفهوم الأول، وهذا لا يعني الانكفاء التام أو إهمال النظريتين الأخريين، فقد كان يتم اقتباس من كل منهما حسب تحديات المرحلة، بدليل أن السنوات الماضية شهدت فيها البلاد نموا متوازنا وملحوظا في علاقاتها مع دول عديدة، في الشرق والغرب، والشمال والجنوب، مستفيدة من دروس وعبر فترات ماضية انصب فيها رهان القاهرة على دول بعينها. وفي ظل تباين المحاور وتعدّد مراكز القوى زادت السياسة المصرية من انفتاحها على جهات العالم الأربع تقريبا.
حملت غالبية المقاربات حذرا وتريّثا شديدين، وراعت تصوّرات وتحرّكات الدولة جيّدا موازين القوى، والمعادلات المعقّدة، والمسموح والممنوع والمرغوب، وحدود الانفتاح والانغلاق مع هذه الدولة أو تلك. وتمكّنت من نسج شبكة سياسية واقتصادية وأمنية صلبة، جنّبتها الوقوع في مزالق إقليمية وعرة، لم تكن مستعدة للتعامل مع وعورتها.
بعد تحقيق تقدّم ملموس على أصعدة مختلفة رأت الإدارة المصرية أنه آن لها الانخراط بكثافة في قضايا إقليمية تمسّ مصالحها في المستقبل. نعم لم تبتعد تماما عن غالبيتها، في فلسطين وسوريا وليبيا واليمن والخليج والقرن الأفريقي ودول حوض النيل، غير أنّ الاقتراب كان بطيئا، باستثناء ليبيا وفلسطين ولهما خصوصية لا تقبل التأجيل، فرضتها دواعي ملحّة ليتسنّى وضع القواعد الأساسية التي تمكّن صانع القرار من التعامل بصلابة مع التطوّرات المتسارعة.
أدلت مصر بدلوها في جميع أزمات المنطقة التي لها علاقة مباشرة بها. اقتربت وابتعدت، وتمدّدت وانكمشت، وبعثت برسائل صريحة وضمنية، عميقة ودقيقة، حسب درجة التأثير على المصالح القومية.
لم تصمت على كل تجاوزات إقليمية غير مألوفة، أو تتوارى عند وقوع عدوان سياسي فاضح أو أمني يصعب تجاهله. وهو ما ظهر في حديث صفقة القرن الأميركية، وجرائم إسرائيل في الأراضي المحتلة، والاعتداءات المتكررة على بعض الدول العربية، وتضخّم التنظيمات المتطرفة والإرهابية، وتدخلات قطر وتركيا.
تستعد مصر للانتقال من مرحلة ردّ الفعل إلى الفعل، بعد أن ظهرت في المنطقة إرهاصات لتسويات سياسية حول بعض الأزمات، قد تكون مجحفة وظالمة ومتجاوزة لحقوق دول عربية، وغير منسجمة مع القوانين الدولية، ويمكن أن تقود نتائجها إلى حرائق مستقبلية أشدّ صعوبة، ولها ارتدادات على أمن مصر بمفهومه الشامل بصورة تفرض المزيد من اليقظة لكل ما يتم الترتيب له، تمهيدا لإعلانه في لحظة معيّنة.
يجد من يُمعن النظر في خارطة المنطقة أنها مفتوحة على احتمالات مختلفة، وتنتظر صراعاتها حلولا قيصرية، ومآلات ومبادرات تنهي نزاعات ساخنة يعتقد البعض في أهمية تبريدها حاليا، ويحمل بعضها بوادر تسويات غير منصفة ترفضها مصر، ولن تقف مكتوفة الأيدي حيالها، بحكم الجغرافيا والدور والمصالح والطموحات، حيث استردت جانبا معتبرا من عافيتها، بينما تبقى هناك دول عربية تعاني من أزمات، بعضها جرى تفجيره لإشغالها، وبعضها بسبب الوقوع في فخاخ نصبت لها وصاحبها سوء في التقديرات. تنشغل دول عربية عديدة بمواجهة مخاطر حالية أو صد مشكلات محتملة، منها ما هو حقيقي وفرضته أجواء إقليمية مشتعلة بالحرائق، ومن السهل انتقال شراراتها من بقعة لأخرى، ومنها ما هو مفتعل بغرض الإلهاء والتشويش والاستنزاف.
ويفتقر البعض القدرة على المواجهة، وربما الرد الرشيد على العدوان. وتكاد تكون مصر الدولة الوحيدة في المنطقة العربية التي تملك قدرات حيوية، وهو ما يجعلها مستهدفة دوما، لتظل منكفئة على نفسها في أحسن الأحوال.
في أماكن وأزمنة أخرى يمكن أن يكون هذا المحدد طبيعيا، لكن مع تنامي قوة مصر العسكرية وتماسكها الداخلي، وفي ظل بيئة تتقاذفها الأمواج والتطلعات، أصبح ذلك صعب تقبّله، لأن هناك قوى تسعى للقبض على عقل وقلب المنطقة وتركيعها، وتحييد أو إضعاف الدول الحية فيها، كي تتمكّن من الوصول إلى أهدافها.
في هذا السياق يمكن فهم الكثير من فصول المظاهرات والاحتجاجات التي تمّ اختلاقها أو تضخيمها للإيحاء بأن مصر مُقبلة على نفق مظلم، وبالتالي لفت أنظار قيادتها للداخل وتقييد حركتها نحو الخارج، مع استمرار الضغط حتى لا تهتم بما يدور على مرمى بصر من حدودها، سواء بالنسبة لآليات التسوية السياسية للقضية الفلسطينية، أو مصير الأزمة الليبية، أو ما سيجري في منطقة الخليج بشأن مسارات المواجهة المحتدمة مع إيران.
لدى مصر ثوابت واضحة ورؤية محدّدة حيال التعامل مع هذه القضايا. جميعها تقف بجوار الدفاع عن منظومة الأمن القومي العربي، وترفض النأي عمّا يضرّها. وفي أوجّ الأزمة السورية والانهماك في المشكلات الداخلية، كشفت عن موقفها بجلاء نحو ما يدور من تجريف للدولة السورية، وأعلنت رفض تفكيكها وضرورة الحفاظ على مؤسستها العسكرية. وتتفاوت درجة الرفض حسب الأزمة، وقد تصل إلى مستويات مرتفعة تغضب بعض القوى.
لديّ توجس شخصي من حديث المؤامرات، ولو كان صحيحا، فأي دولة تستطيع تفكيكه والتعامل مع مكوّناته، طالما امتلكت القدرة والإرادة والرغبة، لأن الاستسلام عجز أكثر منه مؤامرة مُكتملة الأركان. ولم تعُد أي دولة، كبيرة أو صغيرة، قوية أو ضعيفة، بعيدة عن استهداف الآخرين. ولذلك فإنّ فكرة إبعاد القاهرة عمّا يدور في المنطقة من المفترض التعامل معها بحنكة وتفويت الفرصة على من يقفون خلفها، لأن وجود مصر وتأثيرها الإقليمي مرتبطان بمدى الإقدام أو الإحجام عن التفاعل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق