أزمة التيارات السياسية الكبرى في العالم العربي // بقلم : ماجد كيالي
لم يشهد العالم العربي سيما في العقود السبعة الماضية، أي فيما بعد قيام الدولة الوطنية (إثر نيل معظم البلدان العربية استقلالها)، حركات سياسية قوية وفاعلة وتمثل كتلا شعبية كبيرة، إذ أن معظم التيارات كانت هشة، وضعيفة، من كل النواحي، إذا استثنينا التيار القومي وذلك بحكم استناده إلى قوة الجيش (حيثما وصل إلى الحكم)، بمعنى أن ولا تيار استطاع أن يفرض نفسه شعبيا.
وفي الواقع فقد نشأت التيارات العلمانية والليبرالية والديمقراطية واليسارية والقومية، في بلدان العالم العربي، مأزومة، أساسا، إذ لم تتشكّل بوصفها تيارات واعية لذاتها، لا من جهة تمثيلها لكتل مجتمعية معيّنة، ولا من جهة تعبيراتها أو دلالاتها السياسية أو الثقافية.
ثمة عدد من الأسباب التي تفسّر ذلك، أهمّها أن هذه التيارات لم تنشأ في البيئات المحليّة لهذه البلدان، أي في جامعاتها وأحزابها ومندياتها وصحفها ودور النشر والثقافة فيها، وإنما بفضل الاحتكاك أو الاصطدام مع الغرب؛ لا سيما في التجربة الاستعمارية. والمفارقة إن هذه البلدان تمثلت المنجزات المادية، الاستهلاكية والتكنولوجية، للحداثة الغربية، في حين تحفّظت على منجزاتها الثقافية، وضمنها أفكارها السياسية والثقافية الكبرى؛ فيما بات يعرف بالتحديث من دون حداثة.
طبعاً يمكن إحالة هذا التحفّظّ إلى المصادفة التاريخية، التي جمعت بين الاستعمار الذي يمثّله الغرب والأفكار السياسية والثقافية الصادرة عنه، والتي ظُهِّرَت باعتبارها بمثابة دعوة للالتحاق بالغرب، لا للّحاق به، وباعتبارها محاولة جديدة لطمس الهوية، لا لمواءمتها مع حقائق العصر ومتطلّبات التطوّر.
وعدا كل ذلك ثمة، أيضاً، العامل المتمثّل بقوّة الموروث الديني، الذي بات بمثابة خطّ دفاع عن الذات وعن الهويّة، والذي تفاقم دوره بعد أن تجاذبته الأهواء السياسية وحوّلته إلى نوع من أيديولوجيا شعبية؛ مع التحفّظ على الادّعاء المتعسّف القائل بأن ثمة شيئاً جوهرياً في الإسلام يحول دون التطبّع مع الحداثة الثقافية.
لكن السبب الأساس لتعثّر الأفكار الأساسية للحداثة «الغربية، باعتبارها منجزاً إنسانياً، لاسيما المتمثلة بالعلمانية والليبرالية والديموقراطية واليسارية، إنما يعود إلى طبيعة السلطات التي تحكّمت في البلاد والعباد في العالم العربي.
فمن الثابت أن تلك السلطات بطبعتها الشمولية، عوّقت قيام الدولة، باعتبارها دولة مؤسّسات وقانون ومواطنين، وعوّقت تحوّل الكتل المجتمعية إلى مجتمعات مواطنين أحرار ومتساوين، بتكريسها الانتماءات الأوليّة، ما قبل المدنية (المذهبية والطائفية والأثنية والقبلية)، كما عوّقت قيام الفرد – المواطن، بحرمانه من حريته وحقوقه. فهذا النوع من الأنظمة هو المسؤول عن تأخّر البلدان العربية في السياسة والاقتصاد والمجتمع والتعليم والثقافة والفن، وعن غياب المجال العام المشترك (الجامعات والسينما والمسرح والمنتديات الثقافية والفنية)، وعن ترييف المدينة، فضلاً عن أنه المسؤول عن تحريم السياسة والحياة الحزبية.
وقد يمكننا ملاحظة أثر كل ذلك في قصور التأسيس لمفاهيم ونظم الديمقراطية، فهذه، مثلاً، لا يمكن اختزالها إلى محض عملية انتخابية، أو مجرّد تبادل أو تقاسم للسلطة، بين لاعبين سياسيين باسم أكثريّات معيّنة. وفي الواقع فإن منشأ هذا القصور ناجم أساساً عن نقص تمثّل الديموقراطية عندنا للحمولات الليبرالية، في محدّداتها السياسية والقانونية والثقافية، التي تعلي من قيمة الفرد، ومن حريته، ومن حقوقه، والتي تؤكّد الدولة باعتبارها دولة مؤسسات وقانون ومواطنين. فالديموقراطية من دون ليبرالية (كمذهب في الحرية الفكرية والفردية) تبدو ناقصة ومشوّهة، لأنها لم تنبن على حرية الأفراد والمساواة بين المواطنين واحترام حقوق الإنسان.
في المقابل فإن الليبرالية من دون ديمقراطية هي ليبرالية ناقصة ومشوّهة، أيضاً، لأن حرية المواطنين المتساوين في الحقوق هي الأساس في الليبرالية، أي في مذهب الحرية، لأن هذا النوع من المواطنين هم الذين يتمثّلون ويتخيّلون ذواتهم الجمعية كشعب ويقيمون العقد الاجتماعي اللازم لبناء الدولة الديموقراطية.
عدا ذلك فإن مناهضة الليبرالية للديموقراطية، بدعوى عدم ملاءمة الديموقراطية للبيئة المحليّة، وبدعوى الحفاظ على استقرار الواقع السائد، يفيد بانحيازها إلى الاستبداد، أي إلى نقيضها المفترض، وخيانتها لقضيتها، ما يفاقم من عزلة التيار الليبرالي وبقائه هامشياً، ونخبوياً، ومن دون صلة بقاعدة شعبية وازنة. وبديهي أن هذا السلوك يضعف من شرعية الفكرة الليبرالية في البلدان العربية، التي طالما رُوِّج لاعتبارها مجرد فكرة تتأسّس على التبعية للغرب، على حساب الهوية الوطنية أو القومية، وعلى نبذ العدالة الاجتماعية.
باختصار فإن تعويق إقامة دولة المؤسسات والقانون والمواطنين، وغياب التلازم بين الديمقراطية والليبرالية، هو في أساس تأزّم تيارات العلمانية والليبرالية والديموقراطية واليسارية في البلدان العربية، وفي أساس تشوّه ونقصان مفاهيمها وحمولاتها الثقافية والسياسية والحقوقية، وبالتالي هامشية دورها في الحياة السياسية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق