رؤية - د محمد عبدالدايم
أكثر من 300 يوم مرت وإسرائيل بدون حكومة فاعلة، منذ حل حكومة نتنياهو والدعوة إلى انتخابات إبريل الماضي التي فشل بعدها بيبي في تشكيل حكومة، وكرر فشله بعد انتخابات سبتمبر، ويبدو أن بيني جانتس لن يكون أكثر من نتنياهو حظًا.
تقترب إسرائيل من عام بلا حكومة منتخبة، جمود سياسي كبير بسبب تقارب عدد المقاعد بين التكتلين الكبيرين كاحول لافان وهاليكود، مع فشل كل منهما في الحصول على أكثرية 61 مقعدًا في الكنيست الـ 21 والـ22.
فيما تجمدت مفاصل الدولة تقريبا، خصوصًا تمرير الميزانية، التي يعتمد عليها الجميع، وزارة الدفاع لأجل تمويل الخطة الجديدة التي أقرها رئيس الأركان أفيف كوخافي لتطوير الجيش الإسرائيلي، منظومتا الصحة والتعليم، ووزارة الرفاه الاجتماعي التي تواجه غضبًا مستمرًا من المعاقين الذين يطالبون بزيادة المخصصات الموجهة إليهم، وبدئوا التفكير في إعادة التظاهر والاحتجاج مجددًا مثلما فعلوا العام الماضي.
بنيامين نتنياهو هو المسئول الأول عن هذا الجمود السياسي، فالرجل الأول في إسرائيل فشل لمرتين في عام واحد، لم يستطع تشكيل حكومة كان يقبض على أواصرها بكل قوة، ووصل إلى حالة من التبجح تجاه والمعارضين، وبدلا من تشكيل حكومة جديدة أصبح همه تقليب معارضيه على بعضهم، وتوجيه الاتهام لهم بأنهم السبب في إفشال مساعيه لتكوين حكومة "وحدة" تتحمل مسئولياتها أمام الجمهور الإسرائيلي.
دولة نتنياهو تتسلط على الجميع
لم يكتف نتنياهو طيلة أكثر من عام بفرد عضلاته، وإطلاق يديه وأسرته على المجتمع الإسرائيلي؛ لكنه كذلك هاجم منظومة القضاء الإسرائيلي غير مرة، خصوصًا بعد توجيه الاتهامات إليه بالفساد والرشى، ومؤخرًا أناب عنه وزير القضاء المؤقت أمير أوحانا، لينبري الأخير بالهجوم على المستشار القضائي لإسرائيل، وهي ضمن التصرفات غير المسبوقة، أن يهاجم وزير قضاء مؤقت لم يوافق الكنيست على تعيينه مسئولا كبيرا بحجم المستشار القضائي الذي لا سلطة لأحد عليه سوى القانون (أو هكذا كان يبدو).
ما يقرب من عام من هجوم نتنياهو على الجميع، الإعلام، أحزاب اليسار المندثرة، الساسة المعتزلين، والعائدين من الاعتزال، أحزاب اليمين الناهضة، مسئولي الشرطة، وكبار مسئولي القضاء، المحكمة العليا، يتهم الجميع بتهمة واحدة: محاولات إسقاطه شخصيًا.
نتنياهو يروج لأن الجميع يتآمرون ضده، ويبدو أنه الوحيد الذي يقترب من تصديق ما يروج له، فالجميع واثقون أنه مذنب في كافة الاتهامات الموجهة له، الجميع يعلم أنه فاسد تلقى هدايا ورشى، واستخدم سلطاته على خلاف القانون، لكن ما جعله يستمر إلى الآن هي خبراته السياسية مقارنة بخصومه جميعًا، إضافة إلى نجاحه في نفخ الهالة التي تحيط به، باعتباره "الوحيد القادر على ضمان الأمن للإسرائيليين"
طيلة هذا الوقت يناور نتنياهو بشعار مبتذل، إما هو أو انعدام الأمن، لذا لا يخلو خطاب له من التلويح بفزاعة الأمن، ومساعي إيران "لمحو" إسرائيل، وضرورة تشكيل حكومة "وحدة" قادرة على مواجهة الأخطار الأمنية المحيطة.
تفوق في الخبرة
بقدر من المنطقية؛ يمكن القول بأن نتنياهو استطاع أن يواجه كثيرًا من التحديات السياسية والاقتصادية الداخلية والخارجية، لكن قدرته على الصمود جاءت بعد أن استطاع أولا أن يصنع لنفسه دولة داخل الدولة، أصبح "الملك بيبي" متوجًا بلا تاج، بتجييش حزبه وتابعين له من تكتلات اليمين الصهيوني والحريدي، وصحف كاملة، ودعم أمريكي غير محدود، وظروف أمنية وعسكرية مواتية، بهزال حزب الله، وإنهاك حماس في غزة، وانقراض حركة فتح في رام الله، وتشتت إيران بين أهدافها التوسعية في أكثر من بقعة، مع تكثيف العلاقات التجارية والاقتصادية مع دول متعطشة لاستيراد أسلحة من إسرائيل رفعت من قدرها كإحدى الدول الكبرى في إنتاج وتصدير السلاح.
هذه المعطيات كلها دعمت نتنياهو كثيرًا في تشييد دولته التي يحارب بها القانون الإسرائيلي والقضاء والمعارضة والظروف، حتى أصبح الآن جالسًا على عرشه المؤقت، ينتظر توجيه الاتهام الرسمي له بالفساد، لكنه على الأقل ما يزال رئيسًا للوزراء، وهو ما يمنحه حصانة أخيرة يبدو أنه مصر على التشبث بها.
جنوح للفشل واستمرار الجمود
فشل بيني جانتس في تشكيل حكومة، وهو الأمر الأقرب للتصور حتى الآن، سيجر إسرائيل إلى انتخابات ثالثة في عام واحد، لتصبح دولة بلا حكومة منتخبة لمدة عام كامل، ويظل نتنياهو "قائمًا" بعمل رئيس الوزراء حتى إشعار آخر، أو حتى تنتهي جلسات الاستماع والتحقيقات.
تعتمد إسرائيل على النظام الانتخابي النسبي، ومؤخرًا – في ظل ميوعة الوضع السياسي- انبثقت أحزاب كثيرة، واختفت أخرى، وهذا يرجع لزيادة الاختلافات، ولكن هذه الاختلافات في جوهرها ليست اختلافات أيديولوجية صرفة، فالجميع يتفقون على المسائل الجوهرية المتعلقة باحتلال الأرض الفلسطينية، لكنها اختلافات بين فرقاء ورفاق، ويسعى الجميع لتذوق الزعامة، والنتيجة أن جاءت انتخابات إبريل وسبتمبر شبه متوقعة، ووصلت بإسرائيل إلى المربع صفر، وربما المربع صفر يروق لنتنياهو الآن، ففيه منجاة من السجن.
السؤال الملح الآن؛ ماذا بعد فشل جانتس؟ ما الجديد الذي ستسفر عنه انتخابات ثالثة ولم تحققه انتخابات إبريل وسبتمبر، حتى الآن يبدو أن حالة الشلل السياسي غير مؤهلة للشفاء، طالما أن نظام الانتخاب النسبي لن يؤدي إلى اختيار اسم واحد بأغلبية تؤهله ليكون رئيسًا للحكومة، وطالما ظل التشتت الحزبي ومحاولات الزعامة الفردية قائمين؛ فلن تكون فرصة تشكيل حكومة ائتلافية ذات أغلبية مريحة أمرًا هينًا على الإطلاق.
أما إذا نجح جانتس، فستكون حكومته مؤقتة بلا شك، لن تستطيع الصمود أمام تيار معارض في الكنيست، خصوصًا وأن جانتس سيكون في هذه الحالة مدعومًا "من الخارج" من القائمة العربية المشتركة، التي لن تشارك غالًبا في حكومة فيها أفيجادور ليبرمان رئيس يسرائيل بيتينو.
الخلاف الكبير بين كاحول لافان وبين هاليكود يتمثل في إصرار نتنياهو على أن يكون رئيس الحكومة أولًا، ولا يترك منصبه قبل منتصف المدة، أي قبل سنيتن، مما يمنحه حصانة قوية تحول بينه وبين تلقي الاتهامات بشكل رسمي، ويتموضع هاليكود في هذا الخندق مستندًا إلى مقاعد أحزاب اليمين الصهيوني والحريدي بكتلة تضمن 55 مقعدًا، وحتى الآن لم يستطع كاحول لافان أن يجبر هذا التكتل الكبير على التفكك ليتفاوض مع كل حزب بمفرده.
يراهن البعض على انبثاق حل مفاجئ قبل نهاية المهلة، الـ 28 يومًا الممنوحة لجانتس، لكن إلى الآن يظل الرهان لصالح استمرار الجمود السياسي، والتوجه لانتخابات ثالثة، بينما نتنياهو يظل رئيسًا مؤقتًا لبضعة أشهر أخرى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق