جان دوست: فتش عن الحب.. السر يكمن هناك

. . ليست هناك تعليقات:


الكاتب الكردي السوري يؤكد لا يهمني أن تسمع صرختي المهم أن أصرخ.


الكاتب : محمد ماموني العلوي
بعض الشعراء والأدباء يعتقدون بأنهم كلما ابتعدوا عن نقاش موضوعات راهنة وعن بيئاتهم حققوا انتشارا أوسع وكتبوا نصوصا كونية تضمن لهم “الخلود”، الكثير منهم لا يعيش في أبراج عاجية فحسب، بل في علياء لا يبالي فيها بمن يتخيّلهم تحته. بينما انخرط الكثير من الكتاب في قضايا شعوبهم إيمانا منهم بتشابك الأدب والسياسة والواقعي واليومي والأحداث الطارئة والسابقة، فالكاتب في النهاية ابن بيئته. وهذا ما نجده في تجربة الكاتب الكردي جان دوست، الذي كان لـ”العرب” هذا الحوار معه.


العرب: تقدمك ويكيبيديا بالكاتب الكردي السوري الذي يحمل الجنسية الألمانية المولود في مدينة كوباني، كيف تقدم لنا نفسك منطلقاً من هذه المناطق الثلاث الحساسة، وهل يمكننا من خلالها كمنافذ الإطلالة على جان دوست الحامل لموروث ثقافي وحضاري وهَم سياسي؟

جان دوست: لا يمكن فصل الهوياتي عن الجغرافي ولا فصل الثقافي عنهما. الهوية تنتجها الجغرافيا مسنودة من ثقافة سكانها. والثقافة ابنة بيئتها الجغرافية الهوياتية الخاصة. وهكذا فهذه العوالم الثلاثة متداخلة مترابطة بوشائج قوية بحيث تشكل الصورة العامة لأي شعب. وأنا نتاج هذه البيئة المتراكبة التي ولَّدت هوية خاصة رسمت لي ملامح شخصيتي الثقافية.

لكن في الحقيقة ليست هناك ثقافة تنمو بمعزل عن تأثيرات ثقافة مجاورة سواء بالإكراه، كما في حالة الدول التي تتقاسم مصير الكُرد وأرضهم، أو بالتراضي كما في حالات أخرى. لا أنزع إلى الثقافة القومية الخالصة، بل أنا من أنصار “التهجين الثقافي”. مقتل أي ثقافة في انعزالها وتقوقعها ضمن حدودها القومية وعدم انفتاحها على الثقافات الأخرى.

أما الهم السياسي الذي أحمله فله علاقة وثيقة بالهوية. مجرد الانتماء إلى أقلية مقموعة أو شعب مضطهد يحوّل المرء إلى كائن مشغول بهموم سياسية كبيرة. وأنا منذ فتحت عيني في عائلة كردية الانتماء أحمل الهم السياسي المتمثل بالنضال في سبيل رفع الغبن عن لغتي الأم أولاً كأهم محدد من محددات الهوية ثم عن قومي أي الجماعة البشرية التي أنتمي إليها بمحض الصدفة ثانياً.

الأدب والسياسة

وجع الذات اللصيق بروحه

العرب: اخترت لدواع سياسية ألمانيا كمقر إقامة هروباً مما قلت إنه تضييق على الحرية والرأي، ما الثمن الذي دفعته نظير ما تتمتع به من فسحة في هذا البلد الغربي؟ وفي إطار الاندماج الهوياتي الكردي إلى أي حد أنت متفق مع شرفخان بدليسي عندما كتب: ولا يطيع الأكرادُ بعضُهم بعضاً، فلا اتفاق بينهم ولا تعاون؟

جان دوست: الثمن الذي دفعته لهذه الغربة مقابل فسحة الحرية باهظ جداً. أنا شخص بالغ الحساسية وقد دمرتني الغربة من الداخل حتى لم يبق مني سوى بقايا روح تحاول الوصول إلى النهاية بأقل الخسائر. وقصتي القصيرة حفنة تراب كما تفضلت تعبير عن الاغتراب. فقد تركنا وراءنا وطناً قاسياً نحنّ إليه، ثم شاهدنا كيف تحوّل إلى خرائب وأطلال فبكينا عليه وكدنا ننفض أيدينا من العودة. صحيح أن العيش الكريم مؤمن هنا، لقمة العيش بكرامة مؤمنة لكنني فقدت الكثير الكثير. الحنين جمرة تتقلب عليها روحي. أشعر بنفسي حلزوناً فقد قوقعته الصلبة التي كانت تحميه. أعرف كثيرين ممن لا يهتمون بهذا الموضوع، ربما هم من الداخل مثلي لكنهم يكابرون ويظهرون عكس ما يخفون. هؤلاء يتعرضون مع مرور الوقت لأزمات نفسية كثيرة هم أنفسهم يستغربونها.

بالنسبة لموضوع المؤرخ الكردي الكبير شرفخان بدليسي عن الشقاق الكُردي فهو ليس سوى تشخيص للحالة المستعصية، لكنه لم يقدم حلولاً، وهنا تجلت أزمة النخبة الثقافية الكردية التي نجحت في تشخيص الداء، لكنها فشلت في تحديد العلاج.

أكثر من أربعة قرون مرت على ملاحظات الأمير المؤرخ، لكن الكرد لم يتغيروا لقد أصبح الحديث عن الشقاق الكردي بمثابة المقدمة الطللية والتي يجب أن يبدأ بها أي شاعر كردي أو أي كاتب. فالموضوع للأسف لا يعدو كونه شكوى من القدر الأرعن، إذ في حالة لافتة وجدنا عند المفكر والشاعر أحمد خاني (من القرن السابع عشر) بعضاً من الإفاضة في الموضوع وطرح جملة من الحلول الواقعية لكنها للأسف لم تتحقق.

العرب: لا يمكن الحديث عن التطرف كفكرة وأيديولوجية دون المرور من ثوابت التربية والقمع والظلم، هذا ما فهمناه على الأقل في رواية “كوباني”، هل أنت متعاطف مع الإرهابيين لأنهم مسلوبي الإرادة؟ وإذا كان كذلك فهل ينسحب الأمر على الأنظمة القمعية كونها مرهونة للقرار الخارجي؟

جان دوست:أنا لست متعاطفاً مع أي داعشي، الداعشي مجرم يتخذ الدين مطية للإرهاب لكنني أحلل في روايتي أحد الأسباب التي تدعو الناس إلى الانخراط في تنظيمات متطرفة مثل القاعدة وداعش وغيرهما. اليأس أولاً. ثم النشوء في بيئة غير متوازنة نفسياً. لا يكفي أن ندين الإرهاب والتطرف.

علينا البحث في جذورهما ووضع حلول جذرية. لن ينتهي الإرهاب بانتهاء هذا التنظيم أو ذاك. إنه نبات شيطاني، يشبه المرجان، ينمو مهما قطعته. لكنه حتماً سينتهي أو سيضعف على الأقل إن نجحنا في إقامة مجتمعات يسودها العدل وتُصان فيها كرامة الإنسان وينتفي منها الفقر. القضاء على الإرهاب لا يتم فقط بقتل الإرهابيين، بل بالقضاء على أسباب الإرهاب.


الروائي كتب باللغة العربية عددا كبيرا من رواياته لكنه يقر بأنه يحاول نقل ملامح بيئته الكردية وهموم جيله

الأنظمة القمعية لا يمكن مقارنتها مع شخص تعرض لغسيل دماغ وأصبح آلة قتل فهذه الأنظمة القمعية المستبدة هي وليدة بيئة محلية قبل أن تكون مرهونة للقرار الخارجي. نحن من نصنع طغاتنا وهم من ينتجون المتطرفين بطغيانهم. هذه الأنظمة التي ابتليت منطقتنا بها هي في الأساس مفرخة الإرهاب والتطرف، لذلك فإن من وسائل القضاء على الإرهاب هو تقييد الاستبداد ورفع الظلم عن كواهل الشعوب.

العرب: بين روايتك “كوباني” و”الفاجعة والربع” و”ممر آمن” كيمياء كثيرة فجرت نبضاً متسارعاً من الخوف والموت والتهجير يعصف بالشخصيات والأماكن والتاريخ، هل نجحت في تضمينهما قضيتك السياسية والهوياتية؟

جان دوست: لكل رواية من الروايتين ظرفها الخاص، “كوباني” كانت وجعي الذاتي اللصيق بروحي. وأكرر هذا دائماً حين غزت فصائل داعش مدينتي التي ولدت وترعرعت فيها شعرت بأن سهماً من نار اخترق روحي. لم أفكر وأنا أكتب “كوباني” بقضية الهوية. لكنها هيمنت على الكثير من فصول الرواية. إذ لا يمكنني الكتابة بعيداً عن هذا الهم.

كل ما فكرت فيه هو استعادة روح المدينة المنكوبة والمدمرة. استعادة طفولتي المنهوبة وشبابي الضائع في أزقتها. استعادة الشوارع والحارات التي شهدت كل شقاواتي وحبي وخيباتي وأحلامي. بنيت كوباني من جديد. أعدت إعمارها بعد أن سويت بالأرض.

الطباشير تفنى ولا يبقى سوى ما تم تدوينه هنا أو هناك

من جهة أخرى حاولت إلقاء الضوء على معاناة الإنسان العادي في الحروب. تحدثت عن عائلة كردية من كوباني وكيف أن الحرب فرقت شمل هذه العائلة التي ترمز إلى الكثير من العائلات السورية. في رواياتي أنحاز للإنسان وأدين الحرب ومن يشعل نيرانها. وهذا تجلى في رواية ممر آمن التي تحدثت فيها عن الغزو التركي لعفرين واحتلالها فيما بعد.

العرب: عندما نطلع على “ممر آمن” نجدها رواية يلتقي فيها الظلام الدامس مع الأجواء العجائبية والاقتباسات التاريخية والأسطورية كعوالم تتحرك من خلالها السياسات والحروب والموت، كيف استطعت أن تصنع كل هذه التوليفة دون أن تسقط في فخ التكرار وهل لازلت مؤمنا بأن الشعب قادر على إسقاط الطباشير؟

جان دوست: استخدمت الطبشورة رمزاً سردياً. الطبشورة أداة تدوين. تدوين سردية ما، قصة، حلم، معلومة وأي شيء آخر. والمفارقة أن بطل القصة الفتى كاميران الذي يسرق طبشورة من مدرسته ليحتفظ بها ثم يسرد لها ما جرى له في الحرب يتماهى مع طبشورته ليفنى بعدها في مياه السيل. الفناء هو النتيجة الحتمية. المادة تفنى والروح خالدة. الطباشير تفنى ولا يبقى سوى ما تم تدوينه هنا أو هناك.

العرب: في “ممر آمن”، ألم تكن مغامرة محفوفة بالمخاطر تلك التي خضتها بإعطاء الطفل “كاميران” سلطة السرد من قلب الحرب في جل وقائع الرواية؟

جان دوست: بلى. كانت مغامرة وكان علي أن أتقمص لغة هذا الفتى المراهق وأحلامه ومعاناته. يقول محمود درويش: يولد الأطفال في الحرب رجالاً. وهذا ما ظهر في الرواية. كاميران لا ينسى أن يكرر على مسامعنا أننا نحن الكبار نعتقد أن الأطفال لا يفهمون شيئاً بينما هم يفهمون أكثر منا. نحن نستهين بقدرات الأطفال ومستوى وعيهم وفهمهم للأحداث لكنهم أكثر حساسية منا. إنهم الأصدق في الحديث عن أي معاناة لذلك اخترته ليتولى مهمة السرد. أما هل أنني قسوت على الطفل؟ فأعتقد أن الحرب هي التي قست على أطفال بلادي ورمت بهم في معمعانها وأتونها الملتهب وجعلتهم يكبرون قبل الأوان. أنا قمت فقط بتصوير قسوة الحرب وتأثيرها المدمر على طفل مثل كاميران. بتعبير آخر لا ذنب للكاميرا التي تلتقط مشهداً قاسياً، وروايتي قامت بمهمة الكاميرا.

العرب: أعود مرة أخرى إلى رواية كوباني، حيث تحدثت عن تاريخ المدينة بتراثها وناسها وبيوتها ومائها وسمائها، الحلم والسراب والوجع والانطلاق، فما بين الرحلة الفاصلة بين الحياة والموت ماذا تمثل كوباني لجان دوست؟

جان دوست: تكسّر حلمُ وأمل العودة بعد الحرب في كوباني، وهذا ما سبب لي أزمة نفسية وشرخاً روحياً كبيراً. كنت قبل الحرب أعيش أملاً جميلاً، كنت صاحب حلم بالعودة يساعدني على تحمل أثقال الغربة، وأضع لنفسي سيناريوهات جميلة لعودتي وأنا حي أرزق ولست محمولاً في نعش. لكن الحرب دمرت كل شيء، حطمت مزهرية حلمي فأصبحت شظايا لا يمكن جمعها من جديد. الآن لا أمل لي بالعودة ومن يعش بلا أمل فكأنه لا يعيش.


منذ هيروشيما والبشرية تعيش هاجس السقوط في هاوية التدمير الذاتي والمنطقة العربية ليست منعزلة عن هذا

العرب: بين أنقاض الذكريات والخراب هل تعتقد أن كوباني تعرضت لمؤامرة أم هي مدينة ضمن مخطط جيوسياسي شامل تحققت بعض فصوله، أم يا ترى صفقة إقليمية؟ وعندما وقعت عين العرب في قبضة تنظيم داعش. ما الإحساس الذي هجم عليك حينها وهل كنت ستحمل بندقيتك للذود عنها كعشيقة أو زوجة؟

جان دوست: كوباني من ضحايا السياسة الدولية. آلمني جداً إهمال الجانب الإنساني في موضوع كوباني، فهي مدينة كاملة فرغت من سكانها بين ليلة وضحاها وأصبح جميعهم وراء الحدود ينامون على الأرصفة وفي المدارس والحدائق والبساتين والمساجد. مئات ألوف الناس تركوا قراهم ومصالحهم ومزارعهم ومحاصيلهم وقطعان ماشيتهم وهربوا عبر حدود مزروعة بالألغام ومحروسة من الجندرمة الأتراك.

لم يكن كل ذلك بريئاً من مؤامرة أو صفقة ما، فدفع المدنيون مرة أخرى ثمن مخططات العسكر والساسة. أما عن شعوري فهو شعور من هوى في حفرة مظلمة لا قرار لها. صرت أهوي وأهوي وأنا أتمنى فقط أن أصل إلى القاع لأموت وأنتهي من الكابوس، وشعرت أنني أخون مدينتي لأنني بعيد عنها ولا أذهب لأنضم لمن يدافعون عنها.

لم أكن ولست إلى الآن على وفاق مع من يديرون شؤون البلاد هناك، لكنني كنت أتمنى فعلاً أن أكون واحداً من أولئك الذين نالوا شرف الذود عن المدينة، هناك صديق لي من أيام الطفولة، جاري وزميلي في الدراسة عاد من معسكرات اللجوء في تركيا ليقاتل فاستشهد في تفجير البوابة الحدودية ولقد حسدته على قراره وعلى استشهاده. لم يكن لدي ما أفعله سوى الكتابة بحزن ومحبة عنه في فصل من فصول رواية كوباني.
المهم أن أصرخ

العرب: بعد هذا التراكم الروائي والخبرة بالبشر والاحتكاك بالأحداث المتسارعة والرهيبة، هل لازلت تؤمن بثقافة التسامح بين القوميات المتناحرة والطوائف المتنازعة وهل ما زال لديك أمل في عصر عربي لا يقف على حافة الهاوية؟

جان دوست: نعم. سأبقى أؤمن بثقافة التسامح ما حييت لأن نقيض التسامح هو الكراهية، والكراهية تدمر العلاقات الإنسانية وتهدم ما بنته الحضارة، وفي اعتقادي لا يكفي الإيمان بالتسامح بل يجب العمل لأجل إشاعته. وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بجعله منهاجاً في الحياة. قلت ذات مرة إن للكراهية منابر إعلامية وأبواقا ومحرضين عليها، فلماذا لا يكون للتسامح مثل ذلك؟ لماذا لا نبشر بالتسامح في مناهجنا الدراسية لننشئ عليها الأجيال القادمة؟

كوباني من ضحايا السياسة الدولية

بالنسبة إلى موضوع حافة الهاوية فالبشرية تعيش هاجس السقوط في هاوية التدمير الذاتي منذ عقود عديدة منذ هيروشيما على الأقل. والإنسان الذي جعله الله خليفة في الأرض يوشك أن يفشل في إدارة الكوكب، والمنطقة العربية ليست منعزلة عن العالم إذ تتأثر بمده وجزره لذلك هي تشارك البشرية محنة وقوفها على حافة الهاوية.

العرب: نشأتك داخل عائلة دينية جعلك تذهب بعيدا في إتقان العربية إلى جانب الكردية التي تكتب بها بشكل جيد، نتساءل عن السر في نجاحك في المزاوجة بين الثقافتين العربية والكردية وهل اللغة ملجأ آمن من المنفى؟

جان دوست: فتش عن الحب السر يكمن هناك. أحببت العربية ولم أشأ أن أعاديها بالرغم من القساوة التي رافقتني في تعلمها بل رافقت كل جيلي والأجيال السابقة واللاحقة. لم أستطع أن أكره العربية. إنها لغة جميلة مغوية، فاتنة توقع في حبائلها أصحاب القلوب والأحاسيس المرهفة. أحياناً كثيرة أهتز طرباً لعبارة قصيرة ترد في قصيدة أو رواية وأغبط نفسي على ذلك بل وأشفق على الذين لا يعرفون العربية لأنهم لا يتذوقون هذا الشهد الرائع.

اللغة الثانية ملاذ. ملاذ حين تضيق بك لغتك الأم. هناك عند من يمتلك ناصية لغتين مجال أكبر للمناورة اللغوية، تتجلى في سرده اللافت هُجنة لغوية محببة. ويغيب سر قوة سرده وعوالمه عن بال النقاد.

العرب: اعتمدت على مخزونك الشعري وتقنيات سردية متقدمة متكئًا على وقائع التاريخ وتخيلات مبتكرة مدمجا عنصري الغربة والاشتياق للوصول إلى الحبكة الروائية المركزة، عند هذه النقطة بالذات هل بلغ جان الروائي غايته في التفكيك النقدي لما يعيشه النظام العربي والإنسان العربي في مجمل حياته الاجتماعية والسياسية والثقافية، كحقيقة نسبية لا مطلقة؟

جان دوست: في الحقيقة أنا اهتممت بالتاريخ الكردي الخاص. لم أقترب من ملكوت هموم الإنسان العربي إلا في الإطار الإنساني العام، أنا ابن بيئة كردية وأجدني أكثر قدرة على التعبير عنها. استطعت عبر السنوات الـ35 التي عشتها في كوباني، المدينة الكردية الحدودية، أن أراقب مجتمعي الكردي ثم قادني ذلك إلى النبش في التاريخ الكردي فبحثت عن العوامل التي مهدت للواقع الحالي وأنتجته.

صحيح أنني كتبت باللغة العربية عدداً كبيراً من رواياتي لكنني حاولت نقل ملامح بيئتي الكردية، هموم جيلي، صورة مجتمعي التي غابت عن الإعلام والصحافة والروايات. حاولت بذلك، مع مجموعة من زملائي طبعاً، سد ثغرة في الرواية العربية كما ساهمت مع غيري فيما يتم تسميته نقدياً بـ”أدب الأقليات” وهو أدب مهمش لم يكن له في الصحافة العربية صدى كبيرا حتى فترة قريبة. في مناسبات كثيرة قلت: أمر جميل أن نهتم بأدب أميركا اللاتينية، لكن الأجمل أن نتعرف على أدب قريب منا روحاً ومناخات مشتركة أعني أدب الأقليات. كيف يكون أحمد خاني مجهولاً لدى القراء والنخبة العربية المثقفة وبابلو نيرودا على كل لسان؟

الرواية ليست عصا موسى بإمكانها أن تشق لنا طريقاً في البحر. الرواية تحفر بهدوء في طبقات العقل

العرب: في عالم عربي تقل فيه القراءة إلى درجة كبيرة، هل نحن في حاجة للرواية كوسيلة قد تكون حاملة لبذرة النجاة والاقتراب من الحقيقة؟

جان دوست: الرواية ليست عصا موسى بإمكانها أن تشق لنا طريقاً في البحر. الرواية تحفر بهدوء في طبقات العقل. تغير الأفكار وتخلق بيئات مناسبة للتغيير بشرط الانتشار الواسع. للأسف فإن ثقافة الاستهلاك طغت على حقل الأدب والرواية خصوصاً. الرديء يكتسح الساحة ولا ينقذنا منه حصول بعض الروايات المهمة على جوائز كبرى. الكثير من الروايات مسلوقة على عجل ولا تحمل أي رسالة، لكنها تنتشر كالنار في الهشيم في ظل غياب حركة نقدية جادة وغياب حس المسؤولية لدى الناشرين. لذلك لا أعوّل كثيراً على الرواية في إحداث خلخلة إيجابية في مجتمعاتنا. القراءة حاجة روحية ومؤثرة، لكنها بالغة الفردية.

العرب: الرواية في عمقها السردي ترجمة لما تخلفه وتخفيه وتنتجه السياسة بشكل أو آخر، والروائي ناقل وصانع ومهندس ومتدخل في عوالم تتشكل داخل المتن الروائي، نتساءل هل اكتفيت بصوتك الروائي صائحاً ناقلا للكارثة السورية، وهل تعتقد أن صوتك كان مسموعاً الآن وكذلك غدا؟

جان دوست: لا يهمني أن تكون صرختي مسموعة أو لا. المهم أن أصرخ. المهم أن أكون وفياً لعذابات الناس الذين اكتووا بنار الحرب، الناس من المهمشين خصوصا الذين لن تذكرهم كتب التاريخ ولن تنصفهم. أستطيع أن أقول مع ذلك بأن صوتي هو أحد الأصوات التي حاولت سرد المحنة وتوثيق الأهوال. لماذا نكتب والحرب ما زالت قائمة؟ يسأل كثيرون عن جدوى ما نفعله. بل نسمع همساً هنا وغمزاً ولمزاً هناك من أننا نجري وراء الشهرة عبر جعل الحرب القائمة موضوعاً لرواياتنا. ويتهمنا كثيرون من أن رواياتنا لن تحمل النضج المطلوب لأن الأمر بحاجة إلى مرور وقت كاف حتى تتضح الرؤية.

غاب عن بال هؤلاء أننا لا نكتب تقارير ميدانية عن الحرب بل روايات تضج بالحركة والألم والأمل والحنين وكل عناصر الرواية. لست بحاجة إلى عشرين سنة لكي أفهم أن الحرب أنتجت جيلاً ناقماً مهزوزاً يائساً باحثاً عن ضفة آمنة. لست بحاجة إلى وقت طويل لأعرف النتائج الكارثية مثلاً لدمار مدينتي كوباني. لقد اكتويت بنار الحرب وانعكست آثارها علي شخصياً. وأنا أعتبر نفسي الأقدر على تصوير ذلك. أعتبر نفسي متمكناً أكثر من روائي قد يأتي بعد خمسين سنة ليجعل حرب العشر سنوات موضوعاً لروايته. المهم كما قلت أنّ لنا صوتا في هذه الكارثة، أننا صرخنا ولا بد أن يلتفت الآخرون إلى صرخاتنا يوماً ما.
الفايروس وآثاره

الحرب دمرت كل شيء

العرب: أجلنا الحديث عن وباء العصر إلى نهاية هذا اللقاء لاعتبارين اثنين الأول مرتبط بحمولته التدميرية على كافة المستويات الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية والأحاسيس النفسية والمؤثرات الجيوثقافية والجيوسياسية، والاعتبار الثاني متعلق بالإنتاجات الروائية التي راكمتها متضمنة معاني الموت والدمار والانسحابات بكل أشكالها، أي أن آثار الفايروس على المستوى الشخصي قد تم علاجها بأشكال ومضامين أخرى على مدى سنوات، هنا نطرح السؤال هل تخاف من الموت الذي عايشته شخصيات رواياتك؟

جان دوست: أخاف الحياة أكثر من الموت. ولا أخاف في الموت إلا غدره ومفاجآته. لكنني على يقين تام من أنني سأواجهه في يوم ما. وأرجو أن يكون الموت نبيلاً معي بأن تكون المواجهة مواجهة فعلاً لا طعنات في الظهر. الموت هاجس ينغص علي الحياة التي أحبها وأعيشها. جائحة كورونا زادت من قلقي وترقبي للمواجهة.

صرت أتوقع في كل لحظة أن يأتي الموت محمولاً على ظهر الفايروس. مات ناس أعرفهم بهذا الوباء فشعرت بشبح الموت يتجول باحثاً عن ضحايا جدد. من التالي؟ سؤال أرّقني وما زال يؤرقني في هذه الفترة.

العرب: بعدما لسعك الخوف من الموت والإصابة بالفايروس القاتل جمعت أمرك بالبوح في يوميات “في قبضة الكابوس.. يوميات حصار كورونا”، ما الذي لم تستطع قوله في اليوميات، وهل المساحة الزمنية التي قضيتها في الحجر كانت مشحونة بمزيج من الطاقة الإيجابية والسلبية التي دفعتك للكتابة، ألم يكن الأمر مبكراً لكتابة تلك اليوميات بعد إنضاجها؟

جان دوست: نقلت يومياتي التي غطت فقط 30 يوماً في الحجر. اليوميات هذه لم تكن سوى تأملات في الجائحة، في خوف الإنسان وهشاشة الحضارة. تأملات إنسان خائف مرعوب يشعر بالعجز التام أمام فايروس حقير صغير يتربص بنا في كل مكان، يخرج لنا من مقابض الأبواب، من البضائع التي نلمسها في المحلات ومن الأيدي التي نصافحها. عدو يحصد الآلاف وتعرف أنه قد يكون بالقرب منك وأنت في طريقك إلى العمل أو السوق أو المقهى ينتظر الفرصة للانقضاض عليك.

وجدت أنه من الأفضل أن أمسك باللحظة قبل أن تفلت من يدي ثم تخونني الذاكرة في نقل أحاسيسي. قد أكتب بعد عشرة أعوام مثلاً في مذكراتي ما مررت به من أحداث ووقائع، لكن المشاعر والأحاسيس لا يمكن نقلها وتدوينها إلا في لحظتها. بعد زوال هذه الغمة سيكون من الصعب تذكر تلك اللحظات الأكثر التصاقاً بأرواحنا. لذلك كله كان لا بد من القبض على اللحظة قبل أن تهرب وتتسرب إلى دهاليز الذاكرة. لكن هل نجحت؟ هذا ما يجيب عنه كتابي “في قبضة الكابوس“.




الكاتب : محمد ماموني العلوي



صحافي مغربي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ابحث في موضوعات الوكالة

الدانة نيوز - احدث الاخبار

صفحة المقالات لابرز الكتاب

احدث الاخبار لهذا اليوم

اخر اخبار الشبكة الاعلامية الرئيسية

إضافة سلايدر الاخبار بالصور الجانبية

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة
تعرف على 12 نوع من الاعشاب توفر لك حياة صحية جميلة سعيدة

تغطية شاملة ويومية للكارثة اللبنانية وتطوراتها

تغطية شاملة ويومية للكارثة اللبنانية وتطوراتها
كارثة افجار مرفأ يروت - غموض وفوضى سياسية - وضحايا - ومتهمين وشعب حزين

الملف الشامل للاتفاق الاسرائيلي الاماراتي البحريتي

الملف الشامل للاتفاق الاسرائيلي الاماراتي البحريتي
الملف الشامل للاتفاق الاسرائيلي الاماراتي البحريتي .. والتطورات المتعلقة به يوما بيوم

اليساريون - الجزء الأول - الجذور

اليساريون - الجزء الأول - الجذور

الاكثر قراءة

تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

-----تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

الاخبار الرئيسية المتحركة

حكيم الاعلام الجديد

https://www.flickr.com/photos/125909665@N04/ 
حكيم الاعلام الجديد

اعلن معنا



تابعنا على الفيسبوك

------------- - - يسعدنا اعجابكم بصفحتنا يشرفنا متابعتكم لنا

جريدة الارادة


أتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الارشيف

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام
الانستغرام

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة
مؤسستنا الرائدة في عالم الخدمات الاعلامية والعلاقات العامة ةالتمويل ودراسات الجدوى ةتقييم المشاريع

خدمات نيو سيرفيس

خدمات رائدة تقدمها مؤسسة نيو سيرفيس سنتر ---
مؤسسة نيوسيرفيس سنتر ترحب بكم 

خدماتنا ** خدماتنا ** خدماتنا 

اولا : تمويل المشاريع الكبرى في جميع الدول العربية والعالم 

ثانيا : تسويق وترويج واشهار شركاتكم ومؤسساتكم واعمالكم 

ثالثا : تقديم خدمة العلاقات العامة والاعلام للمؤسسات والافراد

رابعا : تقديم خدمة دراسات الجدوى من خلال التعاون مع مؤسسات صديقة

خامسا : تنظيم الحملات الاعلانية 

سادسا: توفير الخبرات من الموظفين في مختلف المجالات 

نرحب بكم اجمل ترحيب 
الاتصال واتس اب / ماسنجر / فايبر : هاتف 94003878 - 965
 
او الاتصال على البريد الالكتروني 
danaegenvy9090@gmail.com
 
اضغط هنا لمزيد من المعلومات 

اعلن معنا

اعلان سيارات

اعلن معنا

اعلن معنا
معنا تصل لجمهورك
?max-results=7"> سلايدر الصور والاخبار الرئيسي
');
" });

سلايدر الصور الرئيسي

المقالات الشائعة

السلايدر المتحرك الرئيسي مهم دا