كتب : د. عماد بوظو
كان من نتائج اتفاقات السلام الإماراتية ـ البحرينية ـ الإسرائيلية صدور بيانات فلسطينية تدعو حركة "فتح"، التي تحكم الضفة الغربية، وحركة "حماس"، التي تحكم قطاع غزّة إلى "إنهاء الانقسام والمصالحة وتوحيد الجهود لمواجهة مخططات تصفية القضية الفلسطينية". وكانت نسخ مطابقة من هذه البيانات قد صدرت قبل أسابيع عند إعلان إسرائيل عن عزمها ضم مناطق من الضفة والأغوار، وسبقتها خلال السنوات الخمسة عشرة الماضية مئات البيانات المماثلة والتي بالإمكان استحضار أي منها وتغيير تاريخه وتقديمه كبيان صدر اليوم دون أن يلاحظ أحد ذلك.
كما تم خلال نفس هذه السنوات التوقيع على الكثير من اتفاقيات المصالحة بين الفصيلين الفلسطينيين، من اتفاقية الأسرى عام 2006 إلى اتفاق مكة عام 2007 ولقاء صنعاء 2008 وفي العام نفسه محادثات في عاصمة السنغال داكار، ثم الورقة المصرية عام 2009 وبعدها وساطة عمر سليمان 2010 أعقبتها لقاءات بين الطرفين في دمشق، ثم اجتماع القاهرة 2011 بعد سقوط مبارك، وبعده اجتماع الدوحة 2012 ثم اتفاق الشاطئ في غزة 2014، إلى "التصور العملي للمصالحة" بوساطة قطرية عام 2016، ثم مبادرة مصالحة مصرية جديدة عام 2017، وأخيرا وساطة لافروف واجتماع موسكو عام 2019، وكانت أغلب هذه الاجتماعات تنتهي بالتوقيع على اتفاق لإنهاء الانقسام الفلسطيني يترافق مع عناق حار بين قادة التنظيمين وهم يرفعون علامة النصر أمام وسائل الإعلام، ثم يعود كل منهم إلى المكان الذي أتى منه وإلى موقفه السابق وكأن شيئا لم يكن في ما أصطلح على تسميته تاريخ من الاتفاقيات الفاشلة.
وأصبح الانطباع السائد أن الخلاف الفلسطيني مستعصي على الحلّ، حتى أن الإعلام وصف لقاء جبريل الرجوب أمين سر اللجنة المركزية لحركة "فتح" مع صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" في شهر يوليو الماضي "بالاختراق التاريخي"! مع أنه مجرّد لقاء بين فصيلين فلسطينيين وتم عبر "الفيديو" لعدم وجود ما يكفي من الثقة بين الطرفين للذهاب إلى دولة الآخر، خصوصا بعد انفجار عبوة ناسفة في موكب رئيس الوزراء الفلسطيني رامي الحمد الله في غزة عام 2018 رغم أنه شخص أكاديمي غير سياسي.
تعمل "حماس" على تصدّر المشهد الفلسطيني رغم معرفتها بأن ذلك يسيء للقضية الفلسطينية دوليا ويقلل من التعاطف العالمي والإقليمي معها
واتفق الرجوب والعاروري خلال هذا اللقاء على إقامة مهرجان المصالحة الفلسطينية في غزة، ولكن مصير هذا الاتفاق لم يختلف عن سابقيه، فبمجرّد انتهاء اللقاء قالت أصوات من رام الله إن مبادرة الرجوب ليست سوى عملية إعلامية هدف من خلالها إلى تلميع نفسه حتى يخلف محمود عباس الذي بلغ عمره 85 عاما وما زال على رأس السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير منذ 16 عاما، بينما قال آخرون في غزة إن تكليف اللواء جبريل الرجوب بمواجهة خطة الضم وهو رجل إسرائيل وصاحب "التاريخ والسجل الأسود مع الشعب الفلسطيني والذي سلّم مقاومين للاحتلال" هو مقدمة لتسليم الضفة لإسرائيل.وأوضح قادة "حماس" شروطهم للمصالحة، فقال القيادي في الحركة محمود الزهار "إن بقاء اتفاقيات أوسلو يعني عدم وجود موقف ورؤية واحدة، والمفاوضات مع إسرائيل هي التي أدت إلى هذه المصيبة التي نحن فيها ويجب البحث عن وسائل جديدة تقول إن كل الأرض فلسطينية"، وطالب محمود الزهار بالتبرّؤ من اتفاق أوسلو وجمع كل القوى لتحرير فلسطين، وعبّر إسماعيل هنية عن نفس الموقف في اللقاء الأخير مع قادة الفصائل في شهر سبتمبر الحالي "نحن لن نعترف بإسرائيل ولن نتنازل عن شبر واحد من أرض فلسطين، إسرائيل ليست جزءا من المنطقة، هي عدو وستبقى عدو وخيارنا بالتأكيد المقاومة الشاملة"، كما وعد الجماهير في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في لبنان بانتصارات قادمة وتضامن عالمي غير مسبوق مع القضية الفلسطينية وتحدث مثل زملائه في محور الممانعة عن امتلاك "حماس" لصواريخ تستطيع استهداف ما بعد بعد تل أبيب.
وتعتبر "حماس" أن أي تصوّر يختلف عن رؤيتها تلك يندرج في باب الخيانة الوطنية، رغم أنها حركة إسلامية مرتبطة فكريا بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين وهويتها الدينية هي الأساس ولا ترفع علم فلسطين "فالوطن وثن وما هو إلا حفنة من تراب عفن" كما قال أحد كبار مفكري الإخوان المسلمين سيد قطب، وأكّدت على ذلك في فعالياتها الأخيرة، فخلف العاروري كانت صورة المسجد الأقصى وفي استقبال إسماعيل هنية في مخيم عين الحلوة طغت أعلام الحركة الخضراء على علم فلسطين في سلوك مقصود انتقده السياسي الفلسطيني نبيل عمرو.
وبما أن طروحات "حماس" هذه لا يمكن تسويقها في المحافل الدولية، ونتيجة ضغط الأطراف الإقليمية الداعمة والممولة للحركة، فقد أصدرت الحركة عدة تصريحات على سبيل التقيّة السياسية قالت فيها إنها توافق على قرارات "الشرعية الدولية" كصيغة توافقية وطنية مشتركة، ولكن تلك القرارات تعني حسب رأيها العودة تماما وحرفيا إلى حدود 4 يونيو 1967، رغم أن قرار مجلس الأمن 242 الصادر عام 1967 الذي بنيت عليه كافة المبادرات الدولية اللاحقة ينص على "الانسحاب من أراض احتلت" وليس كافة الأراضي، ولذلك يتم الحديث في المبادرات الدولية الحالية عن إجراء عمليات تبادل للأراضي، كما يعني حق العودة عند "حماس"، عودة أولاد وأحفاد اللاجئين إلى المناطق التي نزح منها أجدادهم داخل دولة إسرائيل، وتتجاهل "حماس" في قضية اللاجئين ذكر كلمة التعويض حتى لا يتبادر إلى ذهن بعض الفلسطينيين القبول بذلك، أي أن الموقف الحقيقي لـ"حماس" هو رفض القرارات الدولية.
تعتبر "حماس" أن أي تصوّر يختلف عن رؤيتها تلك يندرج في باب الخيانة الوطنية
كما أن حركة "حماس" مدرجة كتنظيم إرهابي في الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي، وجناحها العسكري مدرج كمنظمة إرهابية في بريطانيا وأستراليا ونيوزيلندا، كما تتعامل معها بعض الدول العربية كتنظيم إرهابي، وهذا ليس مستغربا فقد وصف إسماعيل هنية قاسم سليماني بـ "شهيد القدس"، كما استنكر سابقا قتل أسامة بن لادن، وأعلن تأييده للحوثي الذي يقصف السعودية، ويدعم ممارسات وسياسات إيران وتركيا ويعتبرهم أركان محور المقاومة.
ورغم كل ذلك فإن هذه المنظمة تعمل على تصدّر المشهد الفلسطيني رغم معرفتها بأن ذلك يسيء للقضية الفلسطينية دوليا ويقلل من التعاطف العالمي والإقليمي معها، كما تشترط للمصالحة الفلسطينية أن تتبنّى بقية المنظمات الفلسطينية برنامجها، الذي تعتمد في ترويجه ضمن الشارع الفلسطيني على المزايدة الشعبوية التي تجد تجاوبا عند شريحة من الشعب، مما يحرج التنظيمات الفلسطينية الأخرى، التي لا تستطيع مصارحة جمهورها بأن مزايدات "حماس" غير قابلة للتحقيق.
بل أن بعض المنظمات تتبنى مواقف غير بعيدة عن مواقف "حماس" نتيجة غياب القيادات الفلسطينية الشجاعة التي تشعر بالمسؤولية عن شعبها ومعاناته ولديها من الجرأة ما يكفي لتوضّح للشعب الفلسطيني أن هذه السياسات لا تقدم حلّا، وفوقها لا توجد تقاليد أو بيئة ديمقراطية في الساحة الفلسطينية بحيث يعرض الموضوع على الشعب ثم يحترم ما يختاره، مما يجعل القضية الفلسطينية رهينة بيد "حماس" التي لا تقيم وزنا لحياة الفرد ولا لمعاناته اليومية، والقضية الفلسطينية بالنسبة لها ليست أكثر من تربة خصبة تستطيع فيها تجنيد الشباب للجهاد العالمي لنصرة الإسلام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق