هيمن على البحث الفلسفي المتعلق بالسينما سؤالٌ عن أحقِّيَّتها بتصنيفها بين أنواع الفنون، ومن الأسباب التي شككت في جدارة السينما بهذا التصنيف: أولًا: حيازتها مكوناتٍ فجَّةٍ أو سوقية؛ نتيجةً لكون بدايتها كانت صيغة للثقافة الشعبية خلافاً للمسرح والرسم والأوبرا، ثانياً: بدا أن السينما تستعير كثيرًا من الفنون الأخرى؛ أي كانت الأفلام الأولى بالنسبة لكثيرينَ مجرد إضافاتٍ بسيطةٍ على الأداء المسرحي أو الحياة اليومية تحظى بعدد مشاهداتٍ أكبرَ من الأعمال التي تُؤدَّى مباشرة (1)، غير أن "جيل دولوز - Gilles Deleuze 1925-1995" يرى أن الفيلم أعلى مرتبةً من الفنون الأخرى؛ لأنه يجمع الوقت والحركة بصورةٍ ضرورية، ويعتقد بوجوب عَدِّ السينما فلسفةً لأنها تكوِّن مفاهيمها الخاصة؛ فليست السينما فلسفةً تطبيقيةً تُعنَى بالمفاهيم الفلسفية التقليدية فحسب؛ بل إنها تطور مفاهيمَ سينمائية، فلا تمثِّل السينما الواقعَ ببساطة؛ لكنها ممارسةٌ وجوديةٌ بحد ذاتها؛ لذلك ليست السينما مجرد فن (3).
ويثير الفلاسفة سؤالًا عن قدرة الأفلام على تقديم الفلسفة أيضا؛ إذ يرى بعضهم أن باستطاعة الأفلام أن تكون وسيطًا للفلسفة، وأنه يمكن للأفلام أن تكون مصدرًا للمعرفة ومساهِمةً محتملةً في الفلسفة ذاتها؛ بسبب كون الفلسفة معنيةً بـ(الشك - Skepticism) والطرائق المتعددة التي يمكن توظيفها في تجاوزه، إذ يمكن للأفلام أن تُقدِّم تصوراتٍ فلسفيةً خاصةً بها في هذا السياق. ومن الطرائق التي يمكن للأفلام أن تنتهجها لتقديم ما هو فلسفي؛ هي التجارب الفكرية التي تتضمن تخيَّلَ سيناريوهاتٍ مختلفةٍ لوقوع الأحداث، إذ بمقدور الأفلام أن تعمل بصفتها تجاربَ فكريةً فلسفية، وبذلك تُصنَّف على أنها فلسفية، ومن الأمثلة على ذلك: (The Matrix 1999) - (Memento 2000) - (Eternal Sunshine of the Spotless Mind 2004)ة(1)، ويرى بعض الفلاسفة -إضافةً إلى ما سبق- أن الفيلم (واقع - Reality) وليس مجرد تمظهراتٍ لخيالات؛ لأنه قادرٌ على التقاط واقعٍ أصيلٍ مستقلٍ عن الذاتية الإنسانية، فليس الفيلم أطروحةً عن العالم، بل إنه (تمثيل - Representation) للعالم، فأي موقفٍ وجوديٍّ موجودٍ في هذا التمثيل يجعل من الفيلم ظاهرةً فلسفيةً أيضا، ويرى "موريس ميرلو بونتي - Maurice Merleau-ponty 1908-1961" أن الفيلم ليس عبارةً عن مجموعةٍ لصور، بل هو ظاهرةٌ زمنية. ويُعدُّ مفهوم (الانغماس - Immersion) هو المفهوم المركزي لتصور "ميرلو بونتي" عن الأفلام، فبالنسبة للفينومينولوجي؛ وُجِدَ البشر في هذا العالم بحيث يظلون مرتبطين به بطريقةٍ طبيعيةٍ وغير واضحة، ويُقدِّم الفيلم خبرةً فينومينولوجيةً بامتياز، لأن السينما تجعل الوعي البشري منغمسًا في العالم، وقد ألهمت أفكاره روادَ الواقعية الجديدة (3)، ويَعدُّ بعض المنظّرين والمخرجين ومن بينهم "Jean Epstein 1897-1953" أن للفيلم القدرة على التفكير؛ فالفيلم أكثر من مجرد نصٍّ أو كتابات، بل هو آلةٌ قادرةٌ على توليد واقعٍ شبيهٍ بالأحلام عبر تجاوز قواعد المنطق والزمن والاستدلال، وغاية السينما كما يرى "دولوز" هي ترويج الأفكار والنواتج المتأتِّية عن عملية التفكير (3).
لكن الترويج للسينما بوصفها أداةً للفلسفة هو أمرٌ يواجه مشكلاتٍ فلسفيةً في حد ذاته. ومن أبرز هذه المشكلات:
1- مشكلة العمومية:
وتعني أن المحتوى المميز للفلسفة ليس هو ذاته المحتوى الذي تتضمنه الأفلام؛ إذ تتضمن الفلسفة عادةً اسئلةً عامةً تتطلب إجاباتٍ عامة، كالسؤال عن ماهية المعرفة الذي يتطلَّب إجابةً عامة، كالقول أن المعرفة اعتقادٌ حقيقيٌّ ومبرهن. أما الأفلام فإنها تقدِّم سيناريوهاتٍ محددة، وكل محتوىً للفيلم يجب أن يكون متضمَّنًا فيما يقدمه السيناريو؛ وهكذا لا يمكن للفيلم أن يملك محتوىً عامًا يذهب إلى أبعدَ من حدود عالمه الخيالي الذي يقدمه. ومثال ذلك: يقدم السيد "أندرسن - Anderson" في فيلم (The Matrix 1999) محتوىً مفاده أن ما عدَّه عالمًا حقيقياً كان عبارةً عن خداع. لكن لا يمكن للفيلم أن يملك محتوىً تَعدُّ فيه شخصيةٌ ما أن العالم الحقيقي عبارةٌ عن خداعٍ مستمر؛ لأن الأفلام تقدم عوالمَ ممكنةً غير فعلية، وبالتالي ليس في مقدورها أن تقدم محتوىً يُعنَى بعالمنا، أيضًا عندما تقدِّم إحدى شخصيات فيلمٍ ما آراءَ فلسفيةً، فلا يعني ذلك أن الفيلم يقدم هذه الآراء؛ لأن الشخصيات المختلفة في الفيلم تقدم آراءَ ومزاعم متناقضة (2).
2- مشكلة الوضوح:
وتُعنَى بمحتوى الفيلم والمحتوى الذي يمكن وصفه بالمحتوى الفلسفي. إذ أن مشكلة السينما الأساسية هي كيفية التعبير عن الفكرة خلافًا للافتراضات الفلسفية التي تتسم بالدقة. كالقول إن المعرفة اعتقادٌ حقيقيٌّ ومبرهن، وهو قولٌ واضحٌ ودقيق، وهو ما ينقص الأفلام؛ إذ تعجز الأخيرة عن صياغة افتراضاتٍ واضحةٍ ودقيقةٍ كالتي تقدمها الفلسفة (2).
وبالرغم من هاتين المشكلتين، قدَّمت السينما مفارقاتٍ وأسئلةً استثارت عقولَ الفلاسفة، ومن هذه المفارقات أننا نستمتع بمشاهدة أشياءَ على الشاشة نكره رؤيتها في الحياة الواقعية، وأوضح مثالٍ على ذلك مشاهدة أفلام الرعب، ولعل التفسير الأقرب لهذه المفارقة هو شعورنا أننا في مأمنٍ عما نشاهد، وهذا هو رأي أنصار (نظرية المحاكاة). يتناول النقاش الفلسفي أيضًا مفارقة (الانخراط العاطفي - Emotional Engagement) التي ترتكز على سبب اهتمامنا بمصير الشخصيات الخيالية في الفيلم؛ فكونها شخصياتٍ خياليةً يجب ألا تجعلنا نأبه لمصائرها بالكيفية التي نأبه بها لمصائر البشر الحقيقيين، لكننا نجد أنفسنا مهتمين بما سيحدث على الرغم من معرفتنا المسبقة بعدم واقعية الأحداث (1).
وهكذا تستمر الأفلام في التأثير في حياتنا بسبب ما تثيره من أسئلة، الأمر الذي يجعل من المتوقع أن تكون فلسفة الأفلام مجالًا أكثرَ حيويةً وأهميةً في البحث الفلسفي.
المصادر:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق