أي مقاربة أمنية ومجتمعية لتجفيف منابع التطرف في تونس
تقدّم الظاهرة الإرهابية في كل مرة قراءة جديدة مع أي عملية تحصل في تونس على غرار عملية أكودة بولاية (محافظة) سوسة، حيث خلفت وراءها مجموعة من التساؤلات بدءا بالعناصر غير المكشوفة التي تم استقطابها مرورا بعملية الشحن السريعة والتواصل المباشر مع عناصر التنفيذ وأخيرا عند الدور، الذي تضطلع به الحواضن ومنها بعض المساجد، التي لا تزال خارجة عن سيطرة الدولة.
كتب : الحبيب مباركي
تونس – يؤكد استمرار ظاهرة الإرهاب في تونس أنها لا تزال رهينة تقاطعات بين المسار السياسي المرتبك وعجز الدولة عن خوض معارك حقيقية لتحييد الحواضن الأساسية التي تعمل على تفريخ عناصر جديدة في كل مرة وتوقعها في شراكها، سواء في المساجد أو السجون وغيرها، بما أعطى حلولا إضافة لهذه الجماعات لتعيد رسم تكتيكات جديدة في كل مرة يضيق فيها الخناق عليها نظير المجهود الأمني المركز.
ويمثل ثالوث العناصر غير المكشوفة وعملية الشحن وحواضن الإرهاب مدخلا مهمّا لمحاولة فهم ظاهرة التطرف واستبيان كيفية تغلغلها في النسيج المجتمعي التونسي وخصوصا في الفئة المغرر بها ومنها الشباب. ولكن أي مقاربة أمنية ومجتمعية يمكن اتباعها لاحتواء بذور التشدد الفكري باسم الدين؟
ويبدو بالإمكان فهم طبيعة عمل الخلايا النائمة للتنظيمات الإرهابية بتونس كونها تعمد في كل مرة إلى تغيير إستراتيجيتها للإيقاع بضحاياها من منفذي العمليات فارضة جملة من التعقيدات والأسئلة التي يصعب تفكيكها، في وقت يتعاظم فيه المجهود الأمني ويتعزز وفق مقاربات شتى تأتي في مقدمتها سرعة نشاط الأجهزة الأمنية والاستخباراتية والعمليات الاستباقية المنظمة التي تقوم بها في محاولة للقضاء على هذه الجماعات وضربها في مقتل.
وبعد يومين فقط من العملية الإرهابية التي أودت بحياة رجل أمن وإصابة ثان كشفت وزارة الداخلية مؤخرا أن “مصلحة التوقي من الإرهاب للحرس الوطني بولاية (محافظة) قفصة تمكنت من الكشف عن مخطط يهدف إلى تركيز إمارة إرهابية وإلقاء القبض على ثلاثة تكفيريين بعد أن تعمدوا التأثير على إمام بأحد المساجد بجهة القطار قصد استقطاب الفئات الشبابية”.
وباستشارة النيابة العمومية أذنت بإحالتهم على فرقة الأبحاث والتفتيش للحرس الوطني والاحتفاظ بهم جميعا ومباشرة قضية عدلية في الغرض موضوعها “الاشتباه في الانتماء إلى تنظيم إرهابي”.
عودة إلى الوراء
زاد هذان الحادثان اللذان تزامنا في ظرف وجيز من منسوب التخوف من العودة إلى المربع الأول الذي عرفته تونس طيلة السنوات التي تلت الثورة وخصوصا بين 2011 و2015، حيث شهدت البلاد انفلاتا أمنيا ترك وراءه العديد من العمليات الإرهابية، التي أربكت جهود الدولة وكادت تعطل مسار التجربة الديمقراطية.
وفتح الوضع المضطرب، بعد تولي حركة النهضة الإسلامية الحكم في 2011، تونس أمام سيناريو أمني شديد التعقيد على العديد من المستويات لا تزال البلاد تعاني من ارتداداته إلى الآن، وخصوصا في ما يتعلق بالمساجد المنفلتة أو الخارجة عن سيطرة الدولة والتي وفّرت ملجأ للعديد من العناصر التكفيرية.
وبالرغم من أن الظرفية الحالية لا يمكن مقارنتها بما عرفته تونس في تلك الفترة، سواء على مستوى كثافة العمليات أو من ناحية نشاط أو سرعة تحرك هذه العناصر قياسا بطبيعة المجهود الأمني الذي لا يزال في مرحلة حرجة لاستعادة الثقة، إلا أنها تعتبر وفق خبراء ومحللين مؤشرا خطيرا يبعث على عدم الارتياح ويدفع إلى التكهن بخطر إرهابي داهم.
وتجد المجموعات الإرهابية النشطة على الحدود التونسية أو تلك المتسللة من بؤر التوتر ملاذها في بعض المساجد التي لا تزال خارجة عن سيطرة الدولة.
وجرت العادة مع كل عملية تكشف عنها الأجهزة الأمنية في تونس وبعد التحري في هوية المتورطين فيها أن تكون الضحية من الشباب اليائسين بسبب البطالة والظروف الاجتماعية الضاغطة والذين يسهل تحويلهم إلى عناصر إرهابية. لكن العملية الأخيرة كشفت معطى مهمّا تنتفي فيه هذه الوضعية ويتمثل في أن العناصر الجديدة التي وقع استدراجها تنتمي إلى عائلات مترفة ماديا، ما يعني أن كل الفئات الشابة غير محصّنة للخلاص من شراك هذه الجماعات.
تعليب فكري
معطى آخر يتوجّب التركيز عليه خلفته العملية الإرهابية الأخيرة ويتعلق بالعمل السرّي للتنظيمات الإرهابية وقدرتها على الاستقطاب والشحن أو ما يسمّيه الخبراء بـ”التعليب الفكري” في ظرف وجيز لعناصر غير مصنفة لدى الأجهزة الأمنية، وهو ما يصعّب عليها بالتالي عملية تعقبها وترصدها.
ويرى المحلل السياسي التونسي منذر ثابت أن الحرب على الإرهاب لا تزال مستمرة بعناوينها المختلفة رغم ما كشفته العملية الأخيرة من سيناريوهات كانت غير منتظرة لكنها متوقعة. وقال لـ”العرب”، إنه “يجب البحث في كل جديد تطرحه أي عملية تسجلها تونس ويجب فك جميع الرموز والعمل عليها لمزيد تطويق هذا الخطر الإرهابي الداهم”.
وفسّر ثابت ذلك بأن هناك معطى جديدا بات يميّز تحرك الجماعات الإرهابية في تونس ويعتمد بشكل أساسي على عناصر غير منضوية ضمن شبكة بيانات الأجهزة الأمنية وبالتالي تصعب مراقبتها.
وتلجأ التنظيمات الإرهابية في كل مرة يقع تضييق الخناق عليها ومراقبتها إلى تغيير أسلوب استقطاب ضحاياها من المغرّر بهم، حيث لم تعد فرضية الفقر والفاقة الاجتماعية موضوع نقاش هذه المرة، ويبرز الدليل على ذلك من خلال ما كشفت عنه معطيات عملية أكودة.
وفي هذا الإطار يعلق ثابت بقوله إن “الإجابات النمطية لا تفي بالحاجة من حيث الفهم المعمق للظاهرة الإرهابية. فمسألة الفاقة الاجتماعية لم تعد مطروحة وبات الجميع مستهدفا سواء كان من الطبقات الميسورة أو من الشرائح الفقيرة”.
وأكد رضا كداس والد الإرهابيين المتورطين في عملية أكودة صحة ما ذهب إليه ثابت وكشف عملية غسيل الدماغ، التي تمت في ظرف وجيز وحوّلت ابنيه إلى متطرفين رغم أنهما يعيشان في ظروف ميسورة ولم يكونا بحاجة إلى أي نوع من الأدوات التي تسهّل استقطابهما وخصوصا ماديا.
وقال كداس في تصريح لإذاعة جوهرة أف.أم المحلية “لاحظت تقريبا منذ حوالي الشهر تغييرا كبيرا طرأ على ولديّ اللذين كانا يعيشان بطريقة عادية لكنهما تحولا فجأة إلى زاهدين في كل شيء”.
انتقال مفاجئ
يفتح هذا المعطى الباب أمام سرعة انتقال الجماعات الإرهابية إلى خططها التالية من عمليات الاستقطاب واستمالة أتباع جدد غير مكشوفين لدى الأجهزة الأمنية ولا يخضعون لرقابتها، تُضاف إلى ذلك عملية التواصل وحلقات التكوين التي تتم بصفة مباشرة معهم.
وتدرك الخلايا المتشددة الناشطة في تونس أن الخناق يضيق عليها سواء تواصليا على مستوى شبكة الإنترنت أو بالمراقبة اللصيقة لعناصرها المشكوك فيها، لذلك تعمد في كل مرة إلى اتباع أسلوب تضليل الأجهزة الأمنية، لكن ذلك لا ينفي عنها طابع الارتباك وعدم إصابة أهدافها بدقة نظير ما تتلقاه من معالجة أمنية ناجعة وقادرة على تفكيك هذه الخلايا وضربها في المنشأ.
وأكد الناطق الرسمي باسم القطب القضائي لمكافحة الإرهاب سفيان السليطي ارتفاع عدد “المحتفظ بهم” في عملية أكودة إلى 11 شخصا. وكشف في تصريح سابق لإذاعة موزاييك المحلية أن المعتقل الأول اعترف بأنه كان على علم مسبق بالعملية وأنه عُرضت عليه المشاركة في العملية. أما الطرف الثاني وهو القائم بشؤون المسجد فقد سهل للمجموعة الإرهابية الاجتماعات السرية.
وتعيد مثل هذه التصريحات إلى الأذهان مسألة خطيرة تتعلق بالمساجد الخارجة عن سيطرة الدولة والتي لا تزال تمثل مراكز إيواء للعناصر المتشددة وتضطلع بدور إسناد في كل مرة يكشف فيها النقاب عن عملية جديدة. وتظل المساجد المنفلتة مسألة شديدة التعقيد في تونس رغم المحاولات التي تقوم بها وزارة الشؤون الدينية في محاولة لتحييدها دون أن تقدم معلومات كافية عن عدد هذه المساجد وكيفية إدارتها.
واعترف وزير الشؤون الدينية أحمد عظوم خلال ندوة مغاربية سابقا بوجود بعض المساجد الخارجة عن سيطرة وزارته رغم الجهود المبذولة باتجاه إخضاعها جميعا لسلطة الدولة. وقال حينها إن “نحو 4500 مسجد تخضع لإشراف الوزارة فيما يوجد عدد آخر من المساجد خارج السيطرة”، دون أن يقدم توضيحات كافية حول عدد هذه المساجد.
واتبعت المجموعات الإرهابية في تونس عدة تكتيكات تتلخص في خمس مراحل، الأولى الدعوة والدعاية، وثانيا جسّ النبض وثالثا الاغتيالات السياسية والضربات المركزة مجهولة الهوية، ورابعا الكمائن الأمنية الوهمية والأحزمة الناسفة وأخيرا مرحلة العمليات الانغماسية، ومنها العملية التي قامت بها امرأة في أكتوبر 2018 بشارع الحبيب بورقيبة وقبلها العملية التي طالت حافلة الأمن الرئاسي في شارع محمد الخامس رغم الفارق الشاسع في تأثيراتهما.
وتقول مصادر أمنية إن مرحلة الدعوة والدعاية ظلت متواصلة على مدى سنتين من عمر الثورة، غير أن تنظيم أنصار الشريعة ارتأى أن يبعث بالتوازي مع الذراع الدعوية والدعائية ذراعا مسلحة قوامها مجموعات صغيرة لا يتجاوز عدد الواحدة منها خمسة أشخاص من أجل جس نبض أجهزة الدولة من جهة للوقوف على مدى جاهزيتها وقدرتها على الصمود، وعموم المواطنين من جهة أخرى للتأكد من مدى استيعابهم لفكرة الجهاد والاحتكام إلى الشريعة الإسلامية.
لكن المتأمّل في جميع العمليات التي شهدتها تونس يتبيّن له أنها تحمل صبغة انتقامية غير أنها لا تخلو من تدبير وتخطيط محكمين، ما يعني أن هناك عقلا تنظيميا موحدا يقف وراءها جميعا، وبالتالي فإن لها هدفا موحدا، يتمثل في الاستغلال الأمثل لفترات “تراجع” الدولة وتحيّن الفرص مع أي أزمة تظهر على السطح للتقدم والقيام بعمليات من هذا النوع.
معالجة مبتورة
يتساءل مراقبون عن إستراتيجية تونس في مواجهة الظاهرة الإرهابية في وقت تكثف فيه الأجهزة الأمنية عملياتها الاستباقية لضرب حواضن هذه الجماعات. لكن بالموازاة مع ذلك تذكي العديد من الثغرات النقاش حول المعالجة المبتورة وضعف الأدوات التي مهدت لوقوع العديد من الشباب ضحايا لمثل هذه العمليات.
وتظل أبرز الحلقات المفقودة لفهم الطريقة التي استقطب بها الإرهابيون جيلا يافعا من الشباب مركزة على جانب الإحاطة والفقد الروحي الذي تعاني منه العناصر المغرّر بها. وفي هذا الإطار يعلق ثابت بأن الجانب الروحي مهم في حياة هذه الفئة من الشباب التي يسهل استدراجها، لكنه يحذر من خطر يواجه تونس يتمثل في تحالف الإرهاب مع المافيا.
ويقول المحلل السياسي منذر ثابت لـ”العرب” إن “أخطر ما تواجهه تونس هو تحالف الإرهابيين مع مافيا الفساد المتغلغلة في كل خاصرة من خواصر الدولة”. ويعني ذلك بحسب الخبير السياسي التونسي أن تعاطي الدولة مع الظاهرة الإرهابية يفتقد إلى بحث معمق في جميع الآليات المحركة أو الداعمة لها وعناصر الإسناد التي هي في الغالب تنهل من نفس المعين.
الخلايا النائمة تدرك أن الخناق يضيق عليها سواء تواصليا على مستوى شبكة الإنترنت أو بمراقبة عناصرها المشكوك فيها
وتزايدت الحرب على مافيا الفساد في تونس مع كل الحكومات المتعاقبة تقريبا دون أن تنجح أي منها سواء في الكشف عن “الحيتان الكبيرة” المتغلغلة في كل القطاعات، بما أنهك المنظومة الاقتصادية، أو في الكشف عن تلك الناشطة على الحدود وتوازي في نشاطها بالسوق السوداء ما تقوم به تلك الديدان غير المكشوفة التي تنخر النسيج الاقتصادي من الداخل.
ويطرح الخبراء جانبا آخر لا يقل أهمية وهو أن تقوم الدولة بإعادة مراجعة والتعمق في خططها لمكافحة التطرف، ويتعلق ذلك بإعطاء حظ أوفر للعلوم الإنسانية بعد التهميش المتعمّد لخريجي هذا الاختصاص لسنوات طويلة وحان الوقت للاضطلاع بدورها. وتُضاف إلى كل ذلك إعادة العمل على دُور الثقافة وتنشيطها بما يسهم في خلق إطار ترفيهي للشباب اليائسين الذين تتهددهم آفة الإرهاب في كل يوم وحين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق