لم نكن خصمين، لكنّه هزمني. غلبني حين أودع في بيتي أكثر ممّا استدان.
لم ينبت شارباه بعد. بالكاد غادر طفولته برشاقة المتخفِّف من ثقالة المدارس وهواجس الطموح. بذات الخفّة يدنو من باب بيتي ضيفًا طارئًا بيدٍ ممدودةٍ لا تحمل من هدايا الضيوف سوى انسلالها المسالم من جيب
السترة الرقيقة الوسخة، وانبساطها، ثمّ انفراد أصابعها الراجفة من نكد الثلج:
“أهلي ناطرين الدفا والخبز لمّا أرجع من جولتي على بيوتكم”
أحلى ما فيه صوته. صوته المتدرّب على الشحاذة بعد أن بحّتْه متعة تجريب التدخين.
“أهلي ناطرين الدفا والخبز لمّا أرجع من جولتي على بيوتكم”
أحلى ما فيه صوته. صوته المتدرّب على الشحاذة بعد أن بحّتْه متعة تجريب التدخين.
في الأسابيع الماضية، شغفتني قبيلة المتسولين التي أنبتتها الحرب. سابقًا لم يكونوا كثيرين في مدينتي الريفية الطباع. شغف غريبٌ؛ أعرف، لكنّه حاصرني كتميمةٍ نافذة، جعلني حين أصادفهم خُلدًا يستعيض بأذنيه الخبيثتين عن حواسه كلها… أرصد الصوت، صوت المتسول كيف يستجدي التفهُّمَ والقبولَ و-إن أمكنه- الحنان، قبل أن يستجدي مالاً أو عطيّة غير المال.
صوت حمد لا ينتمي لكورَس هذه القبيلة، ولا لموسيقا عباراتها المعلّبة كنشيد سمجٍ؛ وإن تفاوت سقفُها وقاعُها، ثقتها وارتباكها، تركيزها ولامبالاتها، إقناعها وفشلها في كسب التعاطف…
اللوحة للفنان الفلسطيني أسامة دياب
يجلس حمد على الكنبة الطريّة. تسرح عيناه في حنايا البيت تتأنيان بإطراقة خشوع أمام المدفأة الأرجوانية اللهب، تنصتان للترتيب، للاستقرار، للحياة الرخيّة. تصعد عيناه وسط حقل الدفء صوب السقف. ما أجمل البيوت ذات السقوف، وما أجمل السقف حين لا يدلف، ولا يُخرّب المقاعد الوثيرة والسجادة طويلة الزغب، الغافية على مرج ألوان… يسبل حمد جفنيه يُرخي رموشه كي تتدوزن فيها جوقة الأفراح هذه… يستحضر كل هذا الماضي الأليف الذي آنسَه في حياة ما سابقة بعيدة. حياة اسمها: ما قبل النزوح…
“هاي فطيرة سخنة، أكيد جوعان” لكنّ عينيه وقد ارتدّتا الآن إلى الفطيرة تزوغان بمكر، تشيحان عنها كي لا تسفحا ماءً يفضح كل هذا الجوع، وإن لم يكن جوعا، على الأقلّ اشتهاءً للقمةٍ زكيةٍ طازجة وساخنة، ومُشبِعة.
“ما راح آكل وحدي. أهلي ناطرين” يعبر صوته من عتبة البحّة إلى مرجة الأنفة، ويكمل واثقا كفارسٍ يتحضّر لنزالٍ تدريبيّ.
“أنا بحبّ التفاح والملبّس، معي هون بالكيس، ما ذقتهم، ناطر لإرجع عالخيمة”
“تشرب الشاي إذا. هل تكفي ثلاثة ملاعق لهذا الفنجان الصغير؟”
“خليهم أربعة!” تصير لصوته رنة الحلم يهبط سكّرًا، كومةَ سكّرٍ في فنجان شاي ساخن.
“خليني أنا اللي أذوّب السكر” تدور الملعقة بين أصابعه. تدوخ الملعقة من الرقص في مأدبة السكر.
لم يعد حمد يراني. صار وحده سيّد المكان، وراعي المأدبة. يطرب لرنين الملعقة في الفنجان، يسبل جفنيه من جديدٍ وهو يأخذ رشفته الأولى ببطء، ثم يطبق فمه الثملان بالدفء، معيدا الكرّةَ بأناة بدويّ في قيلولة الظهيرة، مطيلاً ما أمكنه، مع كلّ رشفةٍ، عناقَ السكر الذائب لحليمات الذوق على فراش لسانه بلذاذة يرجو لو لا تنتهي… وأرجو، بعد أن غادر، لو ينسى مفاتيح متعه الصغيرة بجوار الفنجان الفارغ على الطاولة.
نجاة عبد الصمد
كاتبة وطبيبة سورية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق