غالبية الأحزاب بدت متحمسة لمبادرة حركة الشعب كونها تمثل مخرجا لمنع انزلاق البلاد إلى فراغ دستوري يوفر أرضية ملائمة للفوضى والعنف واستدعاء الإرهاب.
السبت 2020/08/29
الخطوات الحالية مقياس لزيادة الشعبية أو تراجعها
بات من الواضح أن خيار الرئيس قيس سعيد في تحييد الأحزاب عن الحكومة الجديدة لم يكن قرارا مدروسا بدقة، وأن حكومة المكلف هشام المشيشي تدفع منذ يومها الأول فاتورة العجلة والرغبة في وضع اليد على المؤسسة التنفيذية بشكل كامل، وأنه حان الوقت لمراجعة هذا الخيار مبكرا والبحث عن مخرج سريع يمنع الرئيس من دخول متاهة قيادة الحكومة من وراء ستار وحيد ودون سند حقيقي ضمن مكونات الدولة، وهو الرجل الجديد عن مؤسساتها وآليات عملها وأدواتها في الإبطاء والتسويف والالتفاف.
ليس مهما أن يكون صادقا ونظيفا ومتحمسا، المهم أن يستجمع الآليات التي تمكنه من الحكم بشكل يسمح له بتحقيق وعوده، وخاصة إظهار أن خياره القوي في استثناء الأحزاب من الحكومة وتحميلها أزمة السنوات العشر الأخيرة كان مبررا وضروريا لإخراج البلاد من الأزمة المستحكمة التي وضعتها فيها الأحزاب الجديدة.
صحيح أن الرئيس مدعوم شعبيا، وخاصة من الفئات الشبابية المتضررة من فوضى ما بعد الثورة، خاصة بانسداد باب التوظيف وغياب الدعم لتحريك الاستثمار وفتح الباب أمام حل أزمة البطالة، لكن هذا الشباب قد ينقلب بسرعة على قيس سعيد إذا رأى أنه لا يمتلك برامج عملية لتحقيق وعوده خاصة إذا أمسك بالحكومة وبات يسيرها بشكل فعلي سواء مباشرة أو من وراء الستار.
ولهذا، فإن خطوات الرئيس الحالية ستكون مقياسا لزيادة شعبيته أو تراجعها، والأفضل له أن يعيد تقييم حماسه للحكم منفردا خاصة أن محيطه في القصر بلا تجارب مثله، وأغلبهم مختص في القانون وبعيد عن عمل مؤسسات الدولة، وحتى الذين اختارهم من ممثلي الإدارة، فإن أغلبهم تجاربه صغيرة وعمل في مؤسسات دنيا، وهو أمر لا يسمح بقيادة الدولة في ظل التشابكات المحلية والإقليمية، وخاصة ما تعلق بحزم الصناديق المالية التي لم تعد تسمح بأن يتم التلاعب بالقروض لبناء شرعية شخصية أو حزبية وشراء السلم الاجتماعية لهذا الرئيس أو ذاك.
وقد اصطدم قيس سعيد بالواقع المعقد منذ اللحظة الأولى لولادة حكومة المشيشي، إذ ظهر رئيس الحكومة المكلف في صورة المغلوب على أمره، فقائمة الحقائب ضمت أسماء سرعان ما تراجعت عنها رئاسة الجمهورية (مثل وزير التجهيز، ووزير الثقافة)، وهي صورة لا تخدم الرئيس سعيد وتسمح لخصومه، وخاصة الأحزاب والكتل البرلمانية لإظهار أن تقييماتها للوضع كانت على حق، وأن قيس سعيد لا هم له سوى الإمساك بالقرار وتجميع السلطات في يده، وأن هذا هو “الانقلاب” الذي تحذره منه.
ويفترض أن يكون الرئيس، وهو أستاذ القانون الدستوري، أكثر الناس وفاء للدستور وحرصا على تنفيذه، من ذلك الاكتفاء بتعبيد الطريق أمام المشيشي ليشكل حكومته بحرية تامة، وحتى إن تدخلت الرئاسة أو دوائر نفوذ داخلها في اقتراح أسماء ومحاولة فرضها، فيكون ذلك من وراء الستار وبالاتفاق مع رئيس الحكومة المكلف، وليس إظهاره مثل صبي صغير مهمته أن يعرض ما يطلب منه، فكيف يمكنه أن يدير حكومته أو يفاوض ويناور مع الأحزاب والمنظمات الاجتماعية ذات الثقل مثل اتحاد العمال، واتحاد أرباب العمل.
الفرصة ما تزال مواتية للتدارك، ولعل قيس سعيد بدأ في مسار التهدئة مع المؤسسات والأحزاب التي كان في خلاف معها، وبينها رئاسة البرلمان، ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي. وقد ظهر من خبر موقع رئاسة الجمهورية أن اللقاء تركز حول الأزمة السياسية، وسبل الخروج منها. وما يؤمّل أن يكون اللقاء بهدف تسهيل عبور حكومة المشيشي في البرلمان، وما يتبع ذلك من تبريد للتوتر مع الغنوشي، وخاصة مع الأحزاب التي يتجه أغلبها للوقوف بوجه حكومة المشيشي ومنعها من نيل الثقة بما في ذلك أحزاب كانت محسوبة على حكومة الرئيس 1.
وخلال الأربع والعشرين ساعة الماضية ظهر تفاعل مهم مع مبادرة قدمها أمين عام حركة الشعب القومية، زهير المغزاوي، تقوم على حزمة من المقترحات تهدف إلى ضمان مرور حكومة المشيشي في مقابل تعهد من رئاسة الجمهورية بتسهيل تشكيل المحكمة الدستورية وتعديل القانون الانتخابي في مرحلة محدودة زمنيا يتم فيها المرور إلى انتخابات مبكرة إذا فشلت الحكومة في تحقيق اختراق جلي في الملفات الاقتصادية والاجتماعية.
وحثت المبادرة رئيس الحكومة المكلف على الالتزام بـ”إيقاف النزيف الاقتصادي والاجتماعي” في مدة لا تتجاوز السنة ونصف السنة.
في المقابل تلتزم الأحزاب والمنظمات الاجتماعية بـ”هدنة سياسية واجتماعية”، وبتركيز الاهتمام أثناء هذه الفترة على “الإصلاحات الضرورية من مراجعة القانون الانتخابي والمحكمة الدستورية وغيرها”.
وفيما مال البعض إلى نظرية المؤامرة في تفسير المبادرة كونها خادمة للرئيس سعيد، الذي يحتاج الآن إلى تمرير حكومة الرئيس 2، فضلا عن تهدئة سياسية واجتماعية، إلا أن غالبية الأحزاب، وخاصة ذات الوزن في البرلمان بدت متحمسة لها كونها تمثل مخرجا للجميع لمنع انزلاق البلاد إلى أزمة سياسية حادة وفراغ دستوري يوفر أرضية ملائمة للفوضى والعنف واستدعاء الإرهاب.
وقال أسامة الخليفي، القيادي في حزب “قلب تونس”، ورئيس كتلته في البرلمان إن “مبادرة حركة الشعب إيجابية ويمكن أن تكون أرضية لتنقية المناخ السياسي”، وهو موقف يكشف حاجة الأحزاب إلى التهدئة، وهي تعرف أن نتائج الأزمة لن تستثني أحدا، وأن الناخبين إذا عاقبوا فسيعاقبون الجميع.
وبعد أن وصف الغنوشي لقاءه بقيس سعيد بـ”المثمر” في إشارة واضحة إلى بداية ذوبان الجليد بين رأسيْ السلطة/ الأزمة، بدا أن النهضة تريد أن تلتقط هذه المبادرة لجسر الهوة مع الرئيس سعيد، وفتح باب العودة إلى التأثير السياسي بعد أن كادت تفقده، وهي تعرف أن سبب الأزمة الرئيسي هو التصعيد مع رئاسة الجمهورية ما دفعه إلى البحث عن القطيعة.
واعتبر القيادي في حركة النهضة سمير ديلو في تدوينة له على فيسبوك أن “مبادرة حركة الشعب جديرة بالتفاعل الإيجابي، وهي تصلح أرضيّة لتوافقات تتجاوز الأحزاب والكتل، وأوّل خطوة لبناء الثّقة الضّروريّة ووقف القصف الإعلامي المتبادل”.
وبقطع النظر عن حسابات النهضة وتبريراتها لمد “يد التعاون” مع الرئيس، فإن الجميع يعرف أن هذا التعاون لو تم فسيكون تعاون الضرورة، وأنه لن يجب ما قبله من مبررات الخلاف الحاد مع الرئاسة، وأن الدور الآن على الطرفين لإظهار جدية حقيقية في القطع مع التصعيد ومحاولة تهميش الطرف الآخر.
وفي اعتقادي، أن الظرف مؤات لتوسيع مبادرة حركة الشعب لتكون نواة لتحرك أوسع يشترك فيه فاعلون من أطراف سياسية واجتماعية مختلفة، خاصة اتحاد العمال الذي ألمح رئيسه نورالدين الطبوبي منذ أيام إلى استعداد منظمته لاقتراح هدنة اجتماعية، وهي مبادرة إن تمت ستحقق أهم شرط لنجاح أي حكومة، وهو توفير المناخ الاجتماعي الملائم للعمل، وخاصة وقف الإضرابات والاحتجاجات، وأغلبها عشوائي، ورفع الشرعية النقابية عنها، ووقف زيادة الرواتب والتوظيف في القطاع الحكومي، والسماح للدولة بالانتفاع بعائدات قطاعات حيوية مثل الفوسفات والنفط، ووقف خسائر شركات كبرى مثل الخطوط الجوية، والنقل والقطارات، والكهرباء، والماء، باتت عائداته غير كافية لسد ديون حالة الرفاهة التي يعيشها الموظفون بفعل زيادات وعلاوات وامتيازات لا تتوقف.
مختار الدبابي
كاتب وصحافي تونسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق