يعتبر «هيجل» أعظم فيلسوف ألمانى منذ عصر «كانط»، وقد نجح فى أن يعطينا أكثر المذاهب المثالية اتساقًا، عندما قال: «إن الواقع النهائى أو الكون هو روح مطلق يمر خلال مراحل من التطور فى الزمان حتى يصبح واعيًا بنفسه فى العقل الإنساني». لذلك تُعّدُ فلسفته مثالية من الطراز الأول، تنشد إدراك الأشياء فى نسق كلى واحد، وتحاول تفسير العالم تفسيرًا عقليًا يبرز ضرورة وجود الأشياء، بحيث يبدو كل شيء فى مكانه المناسب؛ أى أن كل شيء له معناه الخاص الذى يستمده من وضعه داخل هذا الكل الهائل.
وصف «هيجل» الموسيقى بأنها أكثر الفنون إثارة للعواطف، فالذات - فى حالة الإحساس أو التفكير أو التصور - تقف فى مواجهة موضوع تتأمله، لكن هذا الانفصال يختفى فى الانفعال العاطفي، إذ تستغرق النفس فى موضوعها وتلتحم معه فى هوية واحدة، بمعنى أن النفس فى هذه الحالة لا تعى التفرقة بين ذاتها والموضوع ما دام الوعى ليس حالة انفعالية لكنه حالة معرفية؛ لذلك فإن الموسيقى تلجأ مباشرة إلى مخاطبة الانفعالات والعواطف.
وإذا تساءلنا: كيف تناول «هيجل» الموسيقى بوصفها فنًا من الفنون الرومانتيكية، سنجد أنه يدرس الموسيقى من خلال ثلاثة محاور رئيسية - كما أوضح ذلك د. رمضان بسطاويسى فى كتابه: «جماليات الفنون».
أولًا: يدرس «هيجل» الطابع العام للموسيقى الذى يميزها عن غيرها من أنواع الفنون الأخرى، من خلال المادة التى تستخدمها الموسيقى وهى «الصوت» بوصفه وسيطًا ماديًا ينقل الشكل الجمالى الذى يعبر عن المضمون الروحي.
ثانيًا: يقدم «هيجل» الفروق الخاصة بين الأصوات الموسيقية وتشكيلاتها من زاوية صيرورتها وتطورها فى الزمن، ومن خلال شدتها النوعية الفعلية؛ أو ما نطلق عليه «الدوام الزمنى المؤقت».
ثالثًا: يوضح «هيجل» العلاقة بين الموسيقى والمضمون الذى تعبر عنه، سواء كان هذا المضمون انفعالات أو انطباعات، وكيف تنقل الموسيقى هذا المضمون.
يشير «هيجل» إلى بعض السمات المتشابهة والمختلفة بين العمارة والنحت والموسيقى، والتى تقوم على أساس علاقات ونسب كمية، بمعنى أن العمارة والنحت تخضع لنسب رياضية للعلاقة بين الأجزاء فى العمل الفني. ويتضح هذا بشكل جلى فى الأبنية المعمارية التى تقوم على التوازى والتماثل والتناغم، والبناء الموسيقى - فى أى قطعة موسيقية - يخضع أيضًا إلى علاقات التماثل والتوازى التى تعتمد على نسب رياضية، وذلك من ناحية التشابه. أما من ناحية الاختلاف، فإن النحت - مثلًا - يعبر عن التطابق بين الداخل والشكل الخارجي، وهذا التطابق ليس موجودًا فى الموسيقى؛ لأن «هيجل» يرى أن الموسيقى فن من الفنون الرومانتيكية التى ينفصل فيها الشكل عن المضمون؛ ولكن هذا الانفصال يأتى من طبيعة الموضوعات التى يتناولها كل من العمارة والموسيقى. والمضمون الروحى للعمارة - بوصفها فنًا رمزيًا - يأخذ شكلًا خارجيًا فى المكان كما يتصوره الخيال، على حين تنفى الموسيقى المكان وتعبر عن المضمون الروحى عن طريق تمثيل العواطف والمشاعر فى هيئة أصوات لحنية؛ والاختلاف بين الموسيقى والعمارة والنحت يأتى من طبيعة المادة الوسيطة التى تصاغ منها العلاقات والنسب. وفى العمارة تستخدم المادة الثقيلة فى المكان وتشيد أبنيتها الضخمة ذات الأشكال الرمزية عن طريق الإدراك الخارجي، على حين تتحرر الموسيقى من المكان ويغوص عالم الأصوات إلى أعماق النفس عن طريق الأذن ويوقظ فيها مشاعر التعاطف.
أمل مبروك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق