استشعر المواطنون للتو أن "ثورة كانون الأول/ ديسمبر" التي انطلقت في ذلك الشهر من العام 2018 قد بدأت تتدلى ثمارها التي لطالما ترقبها الشارع منذ نيسان/ أبريل الماضي. كان الحدث هو حل حزب المؤتمر الوطني الحاكم البلاد منذ 1989. فبعد سبعة أشهر من سقوط الرئيس عمر البشير، أُعلن في الخرطوم عن إجازة قانون تفكيك "نظام الثلاثين من يونيو" وإنهاء التمكين.
حالة من الفرح الشعبي، والمظاهرات الاحتفالية عمت بعض الشوارع منذ ساعات الصباح الأولى عقب إجازة القانون نهاية نوفمبر /تشرين الثاني الماضي. والقانون القاضي في جوهره بحل حزب البشير وتفكيك نظام حكم الإسلاميين، وتعتبره قطاعات واسعة من الشعب أول خطوة في اتجاه تأسيس دولة تليق بـ"ثورة ديسمبر". هذه الخطوة تأخرت كثيراً، فلم تكن مواجهة الحزب الحاكم متناسبة مع مستوى ثورة الشعب. وربما يعود ذلك لطبيعة وتيرة التغيير المتواضعة التي فرضتها موازين القوة الداخلية والتحالفات الإقليمية المعقدة التي خلّفها البشير. فالعسكريون، شركاءُ السلطة التي ولدت من الثورة، هم جزء أصيل من نظام التمكين نفسه. وتعوِّل بقايا النظام البائد كثيراً على هؤلاء الشركاء العسكريين في السلطة، ولا يزال البعض منهم يتطلع لأن يرافق التغيير محتفظاً بالامتيازات ذاتها التي حصل عليها على مدى ثلاثين عاماً حسوماً.
ما قانون التفكيك وما المقصود بالتمكين؟
بعد إعلان الحكومة بشهر واحد، أبدى محمد ضياء الدين، القيادي في "تحالف قوى الحرية والتغيير" ندماً على عدم اللجوء إلى الشرعية الثورية بعد سقوط البشير مباشرة، والتي كانت بلا شك ستوجه الضربة القاضية للنظام البائد. وحديث ضياء كان مطابقاً لنبض الشارع المتلهف لإنفاذ شرعية ثورية تقود إلى وضع سالك في طريق تحقيق أهداف الثورة. ويبدو واضحاً أن الإحجام ذاك خلق واقعاً معقداً لمواجهة النظام البائد بالقانون الذي توافقت عليه الحكومة الانتقالية بعد اختيارها شرعية القضاء.
قانون تفكيك نظام البشير الذي سيطر على السودان عبر انقلاب عسكري في حزيران/ يونيو 1989 يقضي بحل حزب المؤتمر الوطني وجميع واجهاته ومصادرة ممتلكاته لصالح حكومة السودان الانتقالية. وتتشكل لجنة ذات صلاحيات لإنفاذ قانون إزالة التمكين، توصي بمصادرة ممتلكات أو حل هيئة أو مؤسسة أو إعفاء من ثبت تعيينهم في الخدمة المدنية بسبب ولاء تنظيمي أو ترقوا في المواقع بقرارات سياسية. غير أن القانون ترك مساحة لاستئناف المتضررين من قرارات اللجنة.
التمكين هو إحدى سياسات نظام البشير التي استند عليها الإسلاميون للسيطرة على البلاد. فبعد انقلاب 1989 نفذوا إحالات للصالح العام لم يشهدها السودان في تاريخه، وجرى استبدالهم بكوادر التنظيم الإسلامي، وهو الأمر الذي أتاح للإسلاميين التغلغل في كل مؤسسات الدولة المدنية، العسكرية والأمنية، ولاحقاً في القطاع الخاص الذي تمت السيطرة عليه بشكل لافت. واعتمد التعيين الوظيفي في كل مؤسسات الدولة طيلة الثلاثين عاماً الماضية على الولاء التنظيمي والحزبي، وتحولت مؤسسات الدولة السودانية إلى واجهات تنظيمية وإيديولوجية تعبر عن الخط السياسي لتنظيم الإسلاميين وتخدمه، وهو ما قاد لاحقاً إلى انهيار في الخدمة المدنية، وتحوّل الأجهزة الأمنية والعسكرية إلى أدوات قمع تحمي إيديولوجيا ومصالح التنظيم الحاكم، ولا تتورّع في سبيل ذلك عن قتل أو تعذيب أو تشريد كل من يعارض حكم البشير وتنظيمه.
بعد إعلان الحكومة بشهر واحد، أبدى محمد ضياء الدين، القيادي في "تحالف قوى الحرية والتغيير" ندماً على عدم اللجوء إلى الشرعية الثورية بعد سقوط البشير مباشرة، والتي كانت بلا شك ستوجه الضربة القاضية للنظام البائد. وحديث ضياء كان مطابقاً لنبض الشارع المتلهف لإنفاذ شرعية ثورية تقود إلى وضع سالك في طريق تحقيق أهداف الثورة. ويبدو واضحاً أن الإحجام ذاك خلق واقعاً معقداً لمواجهة النظام البائد بالقانون الذي توافقت عليه الحكومة الانتقالية بعد اختيارها شرعية القضاء.
يقضي القانون بحل حزب المؤتمر الوطني ومصادرة ممتلكاته لصالح الحكومة الانتقالية. وتتشكل لجنة لإنفاذه، توصي بمصادرة ممتلكات أو حل هيئة أو مؤسسة أو إعفاء من ثبت تعيينهم في الخدمة المدنية بسبب ولاء تنظيمي..
يشعر الشارع بارتياح واضح إزاء هذا القانون، الذي أظهر الحكومة الانتقالية المحاصرة بأزمة اقتصادية طاحنة بمظهر حكومة الثورة فعلياً وعزز ثقة الشارع فيها. غير أن هناك عقبات كُؤد في وجه إنفاذ هذا القانون..
قانون تفكيك نظام البشير الذي سيطر على السودان عبر انقلاب عسكري في حزيران/ يونيو 1989 يقضي بحل حزب المؤتمر الوطني وجميع واجهاته ومصادرة ممتلكاته لصالح حكومة السودان الانتقالية. وتتشكل لجنة ذات صلاحيات لإنفاذ قانون إزالة التمكين، توصي بمصادرة ممتلكات أو حل هيئة أو مؤسسة أو إعفاء من ثبت تعيينهم في الخدمة المدنية بسبب ولاء تنظيمي أو ترقوا في المواقع بقرارات سياسية. غير أن القانون ترك مساحة لاستئناف المتضررين من قرارات اللجنة.
التمكين هو إحدى سياسات نظام البشير التي استند عليها الإسلاميون للسيطرة على البلاد. فبعد انقلاب 1989 نفذوا إحالات للصالح العام لم يشهدها السودان في تاريخه، وجرى استبدالهم بكوادر التنظيم الإسلامي، وهو الأمر الذي أتاح للإسلاميين التغلغل في كل مؤسسات الدولة المدنية، العسكرية والأمنية، ولاحقاً في القطاع الخاص الذي تمت السيطرة عليه بشكل لافت. واعتمد التعيين الوظيفي في كل مؤسسات الدولة طيلة الثلاثين عاماً الماضية على الولاء التنظيمي والحزبي، وتحولت مؤسسات الدولة السودانية إلى واجهات تنظيمية وإيديولوجية تعبر عن الخط السياسي لتنظيم الإسلاميين وتخدمه، وهو ما قاد لاحقاً إلى انهيار في الخدمة المدنية، وتحوّل الأجهزة الأمنية والعسكرية إلى أدوات قمع تحمي إيديولوجيا ومصالح التنظيم الحاكم، ولا تتورّع في سبيل ذلك عن قتل أو تعذيب أو تشريد كل من يعارض حكم البشير وتنظيمه.
عقبات كُؤد أمام إنفاذ القانون
والمحك الحقيقي أمام قانون تفكيك نظام البشير ودولة التمكين، يتمثل بحقيقة أن تنظيم الحركة الإسلامية لم يكتفِ بالسيطرة على مفاصل المؤسسات الوطنية الرسمية، بل سعى حثيثاً ومنذ وقت مبكر، لإنشاء أجهزة موازية، أمنية وعسكرية. هذه الأجهزة تخترق الأجهزة الرسمية عبر دوائر مخلصة داخل التنظيم الإسلامي، وهي أجهزة بديلة صنعها الإسلاميون لتأمين وحماية دولتهم في حال اضطرت المؤسسات الرسمية أن تنحني لأية عاصفة تغيير أو إصلاح. كما أن تأسيس قوة اقتصادية ضخمة خارج نطاق السوق الرسمي تتحكم في سلع حيوية، مثل الدقيق، والوقود ومشتقاته، تمثل تحدياً كبيراً أمام تفكيك مؤسسات النظام البائد. بعض مؤسسات هذه القوة الاقتصادية مرئي تحت لافتات معروفة، والبعض الآخر غير مرئي، بيد أن نشاطها يؤثر في السوق بشكل مباشر.
الآن يشعر الشارع بارتياح كبير إزاء هذا القانون الذي أظهر الحكومة الانتقالية، المحاصرة بأزمة اقتصادية طاحنة، بمظهر حكومة الثورة فعلياً وعزز ثقة الشارع فيها. غير أن عقبات كُؤد توجه إنفاذ هذا القانون. فاللجنة الموكل إليها أمر تفكيك النظام البائد، تتشكل من المكونين العسكري والمدني. والأول كان جزءاً من نظام التمكين، ويحوز على نحو كامل على الملفات والمعلومات المتعلقة بممتلكات التنظيم وأمواله وواجهاته من شركات ومنظمات وهيئات، أما المكون المدني فتنقصه المعلومات عن ممتلكات ومؤسسات النظام البائد. ليس هذا فحسب، بل السؤال هو كيف تواجه اللجنة التمكينين العسكري والأمني، عطفاً على التمكين الاقتصادي واسع النطاق والذي هو بيت القصيد.
أسست خطة التمكين قوة اقتصادية ضخمة خارج نطاق السوق الرسمي تتحكم في سلع حيوية، مثل الدقيق والوقود ومشتقاته، وهي تمثل تحدياً كبيراً أمام تفكيك مؤسسات النظام البائد.
قبضة النظام البائد على قطاعات المصارف، النفط، الضرائب والجمارك - أي القطاعات المُدرّة للإيرادات - تبدو واضحة. وعلى الرغم من ذلك، فربما يستطيع القانون أن ينفذ داخل المؤسسات المدنية حتى ذات الطبيعة الإيرادية هذه.
وقبل كل ذلك، يتبدى سؤال موضوعي: كيف تُسترد أموال النظام البائد. فترة سبعة أشهر بعد سقوط البشير كافية كي يُرتب الحزب أو التنظيم أوضاعه، وقد نقلت بعض التقارير الصحافية أن عمليات بيع وشراء وتحويل أموال إلى الخارج عطفاً على عمليات نقل ملكية جرت لممتلكات الحزب وأموال رموزه الذين يقبع بعضهم في المعتقلات. ويبدو أن التباطؤ الذي صاحب قرارات حل حزب المؤتمر الوطني مقصودة لذاتها، فيقال أن رموز النظام البائد طلبوا من المكون العسكري إمهالهم بضعة أشهر.. وقد كان.
هذا بشأن إمكانية استرداد ما تمّ نهبه، لكن ماذا بشأن المؤسسات الاقتصادية العسكرية والتي هي تحت سيطرة المكون العسكري للحكومة الانتقالية؟ فهل يقبل المكون العسكري بتفكيك مؤسساته العسكرية والأمنية استجابة لقانون التفكيك، وهل يُعين اللجنة بتفكيك الإمبراطورية الاقتصادية غير الرسمية للنظام البائد والمتحكمة لدرجة كبيرة في حركة السوق؟
ووفقاً لنصوص القانون، فهو لم يحدد أن يشمل التفكيك كذا ويمسك يده عن كذا. فالقانون لم يخصص أو يحدد بل أن ما يُفهم من نصوصه أن التمكين يشمل كل المؤسسات ذات الصلة بالحزب أو التنظيم. غير أن واقع الحال وطبيعة التغيير، علاوة على تشكيل اللجنة يثير تساؤلات أخرى.
وهكذا فالأرجح أن تمضي اللجنة بسلاسة نحو تفكيك التمكين في المؤسسات المدنية التي لا تمثل حجر عثرة كبير. فقطاع مثل العمل الإعلامي الذي يسيطر عليه تمويلياً النظام البائد أو رجال أعمال محسوبين عليه، ليس تفكيكه عسيراً، لكن قطاعاً مثل المعادن تسيطر عليه الشركات العسكرية والأمنية والتي هي جزء من نظام التمكين ويدّر أموالاً طائلة، فكيف سيواجهه قانون التفكيك؟ فعلى سبيل المثال، هناك شركتا "الجنيد" و"السبيكة" المملوكتان لقوات الدعم السريع وجهاز الأمن والمخابرات، وهما تحوزان على نحو 80 في المئة من صادر الذهب. و"الدعم السريع" و"جهاز الأمن" أجزاء أصيلة من دولة التمكين كما أنهما الآن شريكان في حكومة الثورة.
بشكل عام، لا تخلو مؤسسة حكومية أو هيئة أو شركة من عناصر النظام البائد. غير أن قبضة النظام البائد على قطاعات المصارف، النفط، الضرائب والجمارك - أي القطاعات المدرة للإيرادات - تبدو واضحة، وعلى الرغم من ذلك فربما يستطيع القانون أن ينفذ داخل المؤسسات المدنية حتى ذات الطبيعة الإيرادية هذه.
لكن ما لا يستطيع القانون التوغل فيه، هو السوق الموازي المؤثر بشكل مباشر على السوق الرسمي. هذه القوة الاقتصادية المملوكة للنظام البائد تعتبر واحدة من العقبات أمام إزالة التمكين. فهذا القانون ليس بمقدوره طبعاً أن يشمل هذه القوة الاقتصادية التي تتمركز في "الصادرات" والتي لا تعود قيمتها إلى البنك المركزي، والتهريب الذي أنهك الاقتصاد السوداني.
أن يحقق هذا القانون أهداف الثورة إزاء إزالة التمكين يتوقف كثيراً على استجابة المكوّن العسكري، الحائز على معلومات وملفات النظام البائد، والحائز كذلك على امتيازات "دولة التمكين" نفسها والذي هو جزء لا يتجزأ منها.. فهل يقبل الشارع بأنصاف الحلول؟
شمائل النور
كاتبة صحافية من السودان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق