لا قواعد ولا مليشيات // بقلم : مهند عبد الحميد
2020-01-07
أثارت عملية استهداف وقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني بأمر من إدارة ترامب استقطاباً حاداً بين قطبين، القطب الأميركي والقطب الإيراني. اذا كان من الطبيعي أن تكون الشعوب العربية ضد سياسة السيطرة والهيمنة والنهب والإخضاع الأميركية، ومن المنطقي أن تقاوم هذه السيطرة وتتحرر منها ومن علاقات التبعية المهينة، فلا يعني ذلك الذهاب تلقائياً وإجبارياً الى قطب آخر هو القطب الإيراني الذي يتعرض للهجوم الأميركي، والذي يقدم خطاباً معادياً لإسرائيل الحليف الاستراتيجي لأميركا. فالاصطفاف مع اي حليف لا يمكن أن تلخصه مقولة "عدو عدوي حليفي وصديقي وبالعكس" في زمن طغيان المصالح على المبادئ. الموضوع أعقد من هذا التبسيط.
وهنا يطرح سؤال، ما هي طبيعة الخلاف او التناقض بين المشروعين الأميركي والإيراني في المنطقة. قد لا نختلف على تعريف المشروع الأميركي بما هو هيمنة استعمارية قديمة حديثة مرفوضة جملة وتفصيلاً. غير أن المشروع الإيراني هو محط خلاف في التعريف، ذلك الخلاف الذي أدى الى انحياز قوى سياسية وأوساط ثقافية وأكاديمية فلسطينية للمشروع الإيراني. هل مشروع إيران في المنطقة ممارسةً وفعلاً ينتمي الى تحرر شعوب المنطقة من الهيمنة الاستعمارية الأميركية الإسرائيلية؟ أستطيع القول إنه في الشكل والأقوال ضد تلك الهيمنة، وإن مقاومته لتلك الهيمنة محكومة بسقف استبدال هيمنة او سيطرة بأخرى، وبتعزيز او تقاسم النفوذ والحصص مع قوى الهيمنة.
هذا التقدير يحتاج الى أدلة. الدليل الأكبر هو الاتفاق النووي الإيراني 5+1 الذي حدد مستوى الاتفاق والاختلاف مع قوى الهيمنة بقيادة الإدارة الأميركية في عهد أوباما. ذلك الاتفاق الذي اعترف بمكانة إيران الإقليمية ورفع العقوبات عنها مقابل ضبط مفاعلاتها النووية وإخضاعها للرقابة التي تحول دون الانتقال من الاستخدام السلمي الى الحربي، إرضاءً لإسرائيل. جاء التفاهم امتداداً للتعاون الأميركي الإيراني في العراق وأفغانستان، والذي بلغ ذروته بانكفاء عسكري أميركي من العراق مع بقاء التحكم بالنفط، لصالح سيطرة سياسية إيرانية. ولم ترفض إدارة أوباما ولا دول الغرب التدخل الإيراني المباشر وغير المباشر – حزب الله ومليشيات عراقية وأفغانية - في سورية. بقيت إيران حرة في سورية باستثناء ما تعرضت له مواقعها وقواتها من اعتداءات إسرائيلية بزعم إرسال أسلحة الى حزب الله اللبناني والاقتراب من جبهة الجولان. ولا يغير من حرية التدخل الإيراني المسكوت عنه في سورية دعم أميركا واتباعها مليشيات طائفية أخرى.
كان واضحاً للعيان التناغم والتعايش بين معظم المتدخلين في سورية والعراق – فقوات التحالف الدولي- بقيادة أميركا تتصدر الهجوم من الجو، والحرس الثوري والمليشيات التابعة له والقوات النظامية في البلدين تقاتل على الأرض، في مواجهة سيطرة "داعش". لقد جرى تضخيم خطر "داعش" من أجل استخدام القضاء عليها في إعادة بناء هيمنة وعلاقات تبعية جديدة. وما ان هزمت "داعش" حتى بدأ صراع جديد على النفوذ والهيمنة بين مكونات الحلف.
في علم السياسة يسمى ذلك تقاطعاً للمصالح بين دول مختلفة الانتماءات، ذلك التقاطع يبرر الاصطفاف في حالة واحدة هي التزام ايران بمصالح الشعوب المهددة بإرهاب "داعش" والتواقة للحرية والخبز والعيش بكرامة. وكما هو معروف فإن مصالح الشعوب لا تتحقق بطلب التدخل الأميركي ولا بالانضواء تحت القيادة العسكرية الأميركية كما فعلت الحكومة العراقية ذات المرجعية الإيرانية سياسياً وأمنياً. عوضاً عن ذلك احتكمت إيران لمصالحها ولهدف تعزيز نفوذها، ولو كان على حساب وفي مواجهة مصالح الشعوب والبلدان العربية المستهدفة. وهنا بيت القصيد.
العنصر الحاسم في تأييد ودعم أي دولة او نظام حكم هو موقفه من مصالح ومطالب شعبه ومن الديمقراطية. منذ هزيمة حزيران عام 1967 الكارثية، فقد الشعار الغوغائي (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) مبرره بعد ان استُخدم ردحاً من الزمن لقمع الحريات وللحيلولة دون مشاركة الشعب في الدفاع عن الوطن وفي بنائه وفي كسر احتكار الطغم العسكرية للحكم وفي مكافحة الفساد. آنذاك أذكر شعاراً رفعته الثورة الفلسطينية يقول: "يا أنظمة الهزيمة نحن أصحاب قضيتنا". هذا الشعار الذي شرحه بعمق المفكر صادق جلال العظم في كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة " وعبر عنه خير تعبير فيلم "العصفور" للمخرج المصري يوسف شاهين الذي ركز على الأسباب الداخلية للهزيمة. كذلك قدمت ظاهرة الشيخ إمام - نجم ثقافة نقدية بديلة للهزيمة عبر الشعر والغناء. أما الفكر الثوري الجديد فقد أزال كل تبرير قدمته الأنظمة المهزومة بمقولة للمفكر المصري إبراهيم فتحي دعت الى "انتقال النضال التحرري من محور أنظمة الهزيمة التي بقيت تتبنى فكر الهزيمة الى العمال والطبقات الشعبية وقواها الثورية والديمقراطية".
مسار ديمقراطي ثوري جديد حفرت مجراه انتفاضات مصرية وفلسطينية وغيرها، لكن الهزائم اللاحقة وبخاصة اتفاقات كامب ديفيد المصرية الإسرائيلية قطعت مع هذا المسار. وجرى تعويم المواقف مرة أخرى في سياق البحث عن تسويات أميركية. وهبط السقف إلى ممانعة للتسويات. يكفي ان يرفض هذا النظام او ذاك الشروط الأميركية الإسرائيلية أو أجزاء لتبرير البقاء في الحكم الى ما لا نهاية وتوريثه، ولكتم أنفاس أي معارضة سلمية ديمقراطية.
لا تختلف ايران عن النظام العربي، في المسألة الديمقراطية، بل تميزت سلباً بالتعصب الطائفي. إيران تؤيد وتدعم المقاومة والممانعة ليس من أجل تحرر الشعوب، وإنما لتعزيز نفوذها وللدفاع عن مصالحها، وقدمت بذلك نماذج عينية في العراق حين دعمت نظاماً طائفياً فاسداً وقمعياً، ودافعت عن النظام الطائفي اللبناني الفاسد الموزع الولاءات. وعندما اندلعت الانتفاضات ضد النظامين بتأييد ومشاركة ودعم أكثرية الشعبين في البلدين، الانتفاضات المطالبة بإنهاء الولاءات الطائفية ومحاسبة الفاسدين واسترداد الأموال المنهوبة وبناء حكم ديمقراطي، انحازت إيران ومليشياتها للأنظمة ووضعت نفسها في مواجهة المطالب المشروعة للشعوب. دافع حزب الله وحركة امل عن النظام الطائفي ورفضا المطالب الشعبية واعتبرا ان ما يحدث هو مؤامرة ضد المقاومة. وفي العراق تصدت المليشيات للمتظاهرين السلميين وأوقعت ما يقارب الـ 500 قتيل في محاولة لوأد الانتفاضة. سبق ذلك الانحياز الإيراني للنظام الديكتاتوري المستبد في سورية والقتال الى جانبه في مواجهة أكثرية الشعب السوري. وسبق كل ذلك سحق اي معارضة شعبية داخل إيران.
بعد مسلسل الممارسات، لم يبق اي مبرر يسمح باصطفاف الشعوب العربية الى جانب إيران، ولا بقبول نموذجها القمعي الطائفي الشمولي، وهذا لا يعني بالقطع الذهاب الى الاصطفاف الأميركي الأشد خطراً. الاستقطاب بموقف مستقل عن القطبين ورافض لأطماعهما وسياساتهما هو الخيار الصحيح. ومن حسن الحظ أن هذا الاستقطاب المستقل عبر عنه منتفضون عراقيون ولبنانيون على الأرض، ولا شك أن هذا الاستقطاب المستقل يملك وحده إمكانية التحرر والخلاص من القواعد الأميركية والمليشيات الطائفية
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق