الديمقراطيّة الملعونة! // بقلم : د. آمال موسى

. . ليست هناك تعليقات:


كثير هو التنظير حول الشعبويّة. وكثرته دليل حيرة فكرية إزاء هذه الظاهرة، التي ما فتئت تتعاظم. ولو دققنا النظر قليلاً لرأينا أن الحديث اليوم عن ظاهرة الشعبوية سواء في الحقول السياسية أو الفكرية أو الإعلامية، إنّما يقترن باستعمال كلمة «عودة» أي يقال: عودة الشعبويّة. 



وأغلب الظن أن إثارة مسألة العودة خاصة بالنسبة إلى السياسيين والإعلاميين يُقصد بها الإشارة التاريخية إلى أن الشعبويّة عرفتها أوروبا مبكراً ثم تجاوزتها. وما ترسب في العقول عن الشعبوية هو أنّها تيار قام على فكرة واضحة وصريحة تتمثل في تقديس الشّعب والانتصار لرؤيته للأشياء ذات الطابع الانفعالي واتباع هواه.

ولقد بيّن غوستاف لوبون في كتابه «نفسية الحشود» - الذي يعد من الكتب التي تم تجاوزها - أن الميزة الأساسية للحشد هي انصهار أفراده في روح واحدة وعاطفة مشتركة تقضي على التمايزات الشخصية وتُخفض من مستوى المَلَكات العقلية. كما اقترح لوبون تفسيراً جديداً لظاهرة الحشد، ربط فيه بين ظاهرة الجمهور والتنويم المغناطيسي، ذلك أنه يعتبر أن التغييرات التي تطرأ على الفرد المنخرط في الجمهور مشابهة تماماً لتلك التي يتعرض لها الإنسان أثناء التنويم المغناطيسي.

السؤال الذي قد يكون جديراً بالطرح في هذه اللحظة التاريخية الفارقة هو: هل الشعبويّة بصدد إعادة نسخ نفسها أم أننا أمام إعادة إنتاج مختلفة؟

قبل أن نحاول الإجابة عن هذا السؤال يبدو لي أن هناك مأزقاً ما يستحق التوقف عنده سريعاً. إن اتساع تبني الديمقراطية طريقة للوصول إلى الحكم ودوران النخب على السلطة قد أسهما في ظهور الشعبوية في بعض البلدان، وفي عودتها في بلدان سبق أن عرفت الديمقراطية. فبين الديمقراطية والشعبوية وشائج قربى. أليست الديمقراطية في أبسط تعريفاتها هي حكم الشعب وبأكثر دقة هي حكم غالبية الشعب؟

أظن أن وضع مثل هذه الأسئلة في اعتبار التفكير والتساؤل مهم ويجعلنا نحفر في التربة الصحيحة، خصوصاً أن هذا اللقاء بين الديمقراطية والشعبوية في بعض البلدان العربية كتونس مثلاً ينتج توتراً متعدد الأبعاد وتصادماً مع العقلنة ومقتضياتها.
طبعاً هذه المساحة لا تسمح بالتعمق كثيراً، وربما يكون الأجدر الذهاب إلى بعض الملاحظات المثيرة للتفكير والنقاش وذات المحمول النقدي. ولعل أولى هذه الملاحظات أن الديمقراطية التي تُدار بشكل ناقص وهش رغم الشفافية القانونية للعملية الانتخابية، تجعل الشعب يُسيء الاختيار. كما أن السائس الذي تم اختياره خطأً يلجأ للمسايرة الشعبية لأنه لا يملك خطة عمل سياسية تنتج حلولاً واقعية ملموسة قابلة للقياس والمعاينة.

فالديمقراطية كطريقة في الحكم وأفضل أشكال الحكم تاريخياً لا تعطي أكلها ولا تظهر مزاياها إلا إذا كان المتسابقون حول السلطة أصحاب هويات سياسية واضحة بالبرنامج، وبخطة العمل التي لا ينقصها إلا الفوز الانتخابي للتنفيذ.

إذن ضعف الحقل السياسي وظيفة وفاعلين يؤثر سلباً على الديمقراطية ويُسيء إلى سمعتها إن صح التعبير. فتصبح ملعونة مثلما يحصل اليوم في صفوف فئات عريضة في تونس والحال أن المشكلة ليست في الديمقراطية في حد ذاتها بل في هشاشة الحقل السياسي، إذ إن الديمقراطية تُمكن مما يسميه عالم الاجتماع الإيطالي باريتي دوران النخب، وللنخبة السياسية خصائص وقدرة وكفاءة وبانعدام هذه الصفات والشروط تتأذى الديمقراطية كثيراً وتورق الشعبوية وتزدهر، حيث إنه يتم الانتقال بسبب هشاشة الحقل السياسي من حكم غالبية الشعب إلى الشعبوية التي هي عنوان عطب في سيرورة العملية الانتخابية نتج عنه وضع مشوه.
أما الملاحظة الأخرى فهي أن الشعبوية الجديدة تختلف عن الشعبوية القديمة. فالشعب في الشعبوية الجديدة مادي في مطالبه وانتظاراته، اقتصادية الشيء الذي يجعل منها شعبوية عقلا

ماذا يعني هذا وكيف سيعبر السائس الشعبوي في هذه الحالة عن تقديسه للشعب واتباع هواه كطفل مدلل مرهق لوالديه؟
في هذه اللحظة تسقط شعبوية الأمس الشعاراتية الوهميّة لا غير مغشياً عليها، وتهبّ الشعبوية المادية بإكراهاتها المباشرة وغير المباشرة ضاغطة على الساسة الشعبويين لتدارك هشاشتهم، إما بتقديس مطالب الشعب الاقتصادية المادية وإما بالضغط والاستنجاد بالديمقراطية، فيعاقب السائس الشعبوي وينضج الشعب أكثر ويتعلم علم المفاضلة بين النخب السياسية وسبله ومفاتيحه وعلاماته.

هكذا تترسخ الديمقراطية شيئاً فشيئاً. صحيح أن الشعبوية تُخسرنا الوقت وتراكم الإحباط، ولكن تلك هي النّار التي ستطبخ عليها الديمقراطية وتتحول من جنينية إلى شابة ذات عنفوان. وهكذا أيضاً نكتسب معرفة جيدة باهظة التكلفة المالية والزمنية والنفسية في علم معرفة النخب التي هي المحرك الأساسي للعملية الديمقراطية، والضامن لاكتساب مناعتها تدريجياً دون نكسات غير متوقعة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ابحث في موضوعات الوكالة

الدانة نيوز - احدث الاخبار

صفحة المقالات لابرز الكتاب

احدث الاخبار لهذا اليوم

اخر اخبار الشبكة الاعلامية الرئيسية

إضافة سلايدر الاخبار بالصور الجانبية

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة
تعرف على 12 نوع من الاعشاب توفر لك حياة صحية جميلة سعيدة

تغطية شاملة ويومية للكارثة اللبنانية وتطوراتها

تغطية شاملة ويومية للكارثة اللبنانية وتطوراتها
كارثة افجار مرفأ يروت - غموض وفوضى سياسية - وضحايا - ومتهمين وشعب حزين

الملف الشامل للاتفاق الاسرائيلي الاماراتي البحريتي

الملف الشامل للاتفاق الاسرائيلي الاماراتي البحريتي
الملف الشامل للاتفاق الاسرائيلي الاماراتي البحريتي .. والتطورات المتعلقة به يوما بيوم

اليساريون - الجزء الأول - الجذور

اليساريون - الجزء الأول - الجذور

الاكثر قراءة

تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

-----تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

الاخبار الرئيسية المتحركة

حكيم الاعلام الجديد

https://www.flickr.com/photos/125909665@N04/ 
حكيم الاعلام الجديد

اعلن معنا



تابعنا على الفيسبوك

------------- - - يسعدنا اعجابكم بصفحتنا يشرفنا متابعتكم لنا

جريدة الارادة


أتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الارشيف

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام
الانستغرام

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة
مؤسستنا الرائدة في عالم الخدمات الاعلامية والعلاقات العامة ةالتمويل ودراسات الجدوى ةتقييم المشاريع

خدمات نيو سيرفيس

خدمات رائدة تقدمها مؤسسة نيو سيرفيس سنتر ---
مؤسسة نيوسيرفيس سنتر ترحب بكم 

خدماتنا ** خدماتنا ** خدماتنا 

اولا : تمويل المشاريع الكبرى في جميع الدول العربية والعالم 

ثانيا : تسويق وترويج واشهار شركاتكم ومؤسساتكم واعمالكم 

ثالثا : تقديم خدمة العلاقات العامة والاعلام للمؤسسات والافراد

رابعا : تقديم خدمة دراسات الجدوى من خلال التعاون مع مؤسسات صديقة

خامسا : تنظيم الحملات الاعلانية 

سادسا: توفير الخبرات من الموظفين في مختلف المجالات 

نرحب بكم اجمل ترحيب 
الاتصال واتس اب / ماسنجر / فايبر : هاتف 94003878 - 965
 
او الاتصال على البريد الالكتروني 
danaegenvy9090@gmail.com
 
اضغط هنا لمزيد من المعلومات 

اعلن معنا

اعلان سيارات

اعلن معنا

اعلن معنا
معنا تصل لجمهورك
?max-results=7"> سلايدر الصور والاخبار الرئيسي
');
" });

سلايدر الصور الرئيسي

المقالات الشائعة

السلايدر المتحرك الرئيسي مهم دا