بقلم : علي الامين
الاحتجاجات اليتيمة، هو الوصف الذي يمكن أن ينطبق على ما جرى في العراق خلال أسبوع، والعنف الذي مورس ضد المحتجين كشف أن التواطؤ كان سمة المواقف الحزبية.
الثلاثاء 2019/10/08
الاحتجاجات التي شهدها العراق ولا يزال فاجأت العراقيين أنفسهم في الحجم والمدى الذي اتخذته. لم تكن العاصمة بغداد مسرح الحدث كما جرت العادة في العديد من التحركات المطلبية والمدنية التي كانت بغداد مركزها، ولا تشبه أحداث البصرة التي جرت قبل عام إلا من حيث الدلالة الإيرانية، ففي البصرة أحرقت القنصلية الإيرانية، وفي الاحتجاجات الأخيرة أُحرق العلم الإيراني. ما جرى أخيرا كان مسرحه محافظات عراقية عدة، لكن اللافت أنها تركزت في المناطق ذات الغالبية الشيعية، التي يشار إليها باعتبارها مركز النفوذ الإيراني وقاعدة السلطة التي تحكم العراق فعليا منذ عام 2003.
ما يجب التنويه به في مقاربة هذا الحدث غير المسبوق في تاريخ ما بعد سقوط النظام السابق، وتمدد النفوذ الإيراني في العراق، أن الاحتجاجات هذه المرة تبدو في وجه السلطة بأكملها، إذ لم تبرز أي مواقف متبنية للحراك الشعبي أو تتبنى المشاركة في الاحتجاجات، ورغم محاولة التفاف بعض القوى، ومنها التيار الصدري الذي حاول استلحاق دور له في هذه الاحتجاجات، فقد قال أحد المتظاهرين في بغداد، وهو يعصب جبينه بعلم عراقي، “لا أحد يمثلنا، يأتون بأشخاص يلبسونهم بزات رسمية، ويضعونهم في البرلمان”. وأضاف “لم نعد نريد أحزابا، لا نريد أحدا يتحدث باسمنا”.
المسار الذي أسست له سلسلة تحركات مطلبية ومدنية خلال السنوات الماضية، نجح إلى حد كبير في نقل الحركة الاعتراضية من معادلة المحاصصة السياسية والطائفية إلى معارضة وطنية عراقية
السلطة كلها متهمة هذه المرة، وصرخة المحتجين لم تميز بين طرف وآخر، بل صوبت على الحكومة بكل مكوناتها، ولعل هي المرة الأولى التي تبدو فيها المرجعية الدينية في النجف، في موقع شبه حيادي، علما أنه طالما كانت المرجعية في تعليقاتها التي تطلقها في مناسبات سابقة، تتسم بالانحياز إلى مطالب المحتجين المشروعة وتقف في وجه الحكومة. ففي الخطبة التي ألقاها أحمد الصافي، ممثل السيد علي السيستاني، الجمعة الماضي، غير متحيزة لأي طرف في العراق. فقد قال “نرفض جميع الاعتداءات التي وقعت على المتظاهرين السلميين في عدد من المدن العراقية، ولكننا في الوقت نفسه نرفض الاعتداء على القوات الأمنية”.
موقف المرجعية يعكس حجم القلق من الاحتجاجات الذي بات يهدد بنيان السلطة القائم، في ظل “قلق من أن تشكل الاحتجاجات أداة لتقويض ما هو قائم من دون أن تتضح بدائل واضحة لهذه السلطة التي تقر المرجعية بأنها فشلت في تلبية الحدود الدنيا من حقوق العراقيين”، كما يفسر أحد العاملين في مؤسسات المرجعية موقفها الأخير.
الاحتجاجات اليتيمة، هو الوصف الذي يمكن أن ينطبق على ما جرى في العراق خلال أسبوع، والعنف الذي مورس ضد المحتجين كشف أن التواطؤ كان سمة المواقف الحزبية التي بدت في غربة عن الشارع، أو متواطئة مع سياسة القمع والعنف الذي مورس ضد المتظاهرين بالقتل والقنص والاعتقالات.
لا شك أن إجراءات الحكومة بإقالتها قيادات عسكرية مستقلة لحساب تعيين أفراد من الحشد الشعبي في مواقع قيادية للجيش فجّرت الاحتجاجات، لكن ما هو أعمق من تلك الإجراءات “المستفزة” لأنصار الدولة والجيش، هو عدم قيام حكومة عادل عبدالمهدي بأي خطوة تظهر أن السلطة العراقية جادة في وقف مزاريب الهدر والفساد من جهة، وفي إظهار أنها حكومة مستقلة عن النفوذ الإيراني وساعية إلى توفير شروط الحياة الكريمة في خامس دولة نفطية في العالم، من جهة ثانية.
السلطة كلها متهمة هذه المرة، وصرخة المحتجين لم تميز بين طرف وآخر، بل صوبت على الحكومة بكل مكوناتها، ولعل هي المرة الأولى التي تبدو فيها المرجعية الدينية في النجف، في موقع شبه حيادي
القرارات التي اتخذتها الحكومة العراقية في اليوم الخامس لتهدئة المحتجين، لاسيما ما وعدت به من إغداق بعض الأموال على الفقراء، والوعد بانجاز مشاريع إسكانية وغيرها من الوعود التي سأم العراقيون سماعها طيلة السنوات الماضية، ليس من الحصافة الاعتقاد بأنها ستنفذ، بل هي وسيلة من وسائل التغطية على سلسلة إجراءات ستعمد الحكومة من خلالها إلى القبض على الشارع ومنع تكرار مثل هذه الاحتجاجات مرة أخرى. الوجه الجديد للسلطة هو وجه “الحشد الشعبي”، السلطة الفعلية التي ستزداد رسوخا في سلطة الحكومة، وكما بات معلوما فإن فصائل الحشد الشعبي باتت تشكل الذراع التي تثق إيران بولائها، والأداة الطيعة لتنفيذ المهمات الأمنية والعسكرية وحتى الشعبية. الجيش والقوى النظامية بطبيعتهما ينتميان إلى منظومة الدولة، فيما “الحشد” منظومة مذهبية دينية توالي مراجع خارج الدولة وخارج العراق أيضا.
الاحتجاجات فرضت مسارا جديدا وليس قصيرا، سيكون محفوفا بسلسلة تحديات أبرزها التعامل مع القبضة الأمنية التي ستسم سلوك السلطة في المرحلة المقبلة، فالحشد الشعبي هو الحارس الإيراني الفعلي لمنظومة السلطة. التحدي الثاني يتصل بتمدد المعارضة إلى مساحات سنية وكردية، في الحد الذي يخرج المشهد الاحتجاجي والتغييري من كونه حراكا في بيئة شيعية لا علاقة لبقية العراق بها. التحدي الثالث هو في الاستفادة من التجارب التي مر بها العراق وثورات الربيع العربي، أي أن السلمية والرؤية السياسية الواضحة والبرامج المتدرجة في عملية التغيير، كفيلة بإحداث التحول الإيجابي في عملية التغيير والإصلاح.
كل ذلك مهدت له الاحتجاجات في ما رفعته من شعارات، وفي اعتدادها بعراقيتها لا بعصبياتها الضيقة، هو ما يمكن إدراجه في سياق تبلور المعارضة الوطنية والمدنية العراقية، من خارج الاستقطاب الطائفي وحتى الحزبي، ووضعت إيران وأدواتها العراقية في موقع الخصم، لاسيما أن العراقيين، عموما، يدركون حجم الدور الإيراني في تركيب السلطة العراقية، ودورها الحاسم في تحديد المواقع القيادية داخل الدولة.
هذا المسار، الذي أسست له سلسلة تحركات مطلبية ومدنية خلال السنوات الماضية، نجح إلى حد كبير في نقل الحركة الاعتراضية من معادلة المحاصصة السياسية والطائفية إلى معارضة وطنية عراقية.
ما يجب التنويه به في مقاربة هذا الحدث غير المسبوق في تاريخ ما بعد سقوط النظام السابق، وتمدد النفوذ الإيراني في العراق، أن الاحتجاجات هذه المرة تبدو في وجه السلطة بأكملها، إذ لم تبرز أي مواقف متبنية للحراك الشعبي أو تتبنى المشاركة في الاحتجاجات، ورغم محاولة التفاف بعض القوى، ومنها التيار الصدري الذي حاول استلحاق دور له في هذه الاحتجاجات، فقد قال أحد المتظاهرين في بغداد، وهو يعصب جبينه بعلم عراقي، “لا أحد يمثلنا، يأتون بأشخاص يلبسونهم بزات رسمية، ويضعونهم في البرلمان”. وأضاف “لم نعد نريد أحزابا، لا نريد أحدا يتحدث باسمنا”.
المسار الذي أسست له سلسلة تحركات مطلبية ومدنية خلال السنوات الماضية، نجح إلى حد كبير في نقل الحركة الاعتراضية من معادلة المحاصصة السياسية والطائفية إلى معارضة وطنية عراقية
السلطة كلها متهمة هذه المرة، وصرخة المحتجين لم تميز بين طرف وآخر، بل صوبت على الحكومة بكل مكوناتها، ولعل هي المرة الأولى التي تبدو فيها المرجعية الدينية في النجف، في موقع شبه حيادي، علما أنه طالما كانت المرجعية في تعليقاتها التي تطلقها في مناسبات سابقة، تتسم بالانحياز إلى مطالب المحتجين المشروعة وتقف في وجه الحكومة. ففي الخطبة التي ألقاها أحمد الصافي، ممثل السيد علي السيستاني، الجمعة الماضي، غير متحيزة لأي طرف في العراق. فقد قال “نرفض جميع الاعتداءات التي وقعت على المتظاهرين السلميين في عدد من المدن العراقية، ولكننا في الوقت نفسه نرفض الاعتداء على القوات الأمنية”.
موقف المرجعية يعكس حجم القلق من الاحتجاجات الذي بات يهدد بنيان السلطة القائم، في ظل “قلق من أن تشكل الاحتجاجات أداة لتقويض ما هو قائم من دون أن تتضح بدائل واضحة لهذه السلطة التي تقر المرجعية بأنها فشلت في تلبية الحدود الدنيا من حقوق العراقيين”، كما يفسر أحد العاملين في مؤسسات المرجعية موقفها الأخير.
الاحتجاجات اليتيمة، هو الوصف الذي يمكن أن ينطبق على ما جرى في العراق خلال أسبوع، والعنف الذي مورس ضد المحتجين كشف أن التواطؤ كان سمة المواقف الحزبية التي بدت في غربة عن الشارع، أو متواطئة مع سياسة القمع والعنف الذي مورس ضد المتظاهرين بالقتل والقنص والاعتقالات.
لا شك أن إجراءات الحكومة بإقالتها قيادات عسكرية مستقلة لحساب تعيين أفراد من الحشد الشعبي في مواقع قيادية للجيش فجّرت الاحتجاجات، لكن ما هو أعمق من تلك الإجراءات “المستفزة” لأنصار الدولة والجيش، هو عدم قيام حكومة عادل عبدالمهدي بأي خطوة تظهر أن السلطة العراقية جادة في وقف مزاريب الهدر والفساد من جهة، وفي إظهار أنها حكومة مستقلة عن النفوذ الإيراني وساعية إلى توفير شروط الحياة الكريمة في خامس دولة نفطية في العالم، من جهة ثانية.
السلطة كلها متهمة هذه المرة، وصرخة المحتجين لم تميز بين طرف وآخر، بل صوبت على الحكومة بكل مكوناتها، ولعل هي المرة الأولى التي تبدو فيها المرجعية الدينية في النجف، في موقع شبه حيادي
القرارات التي اتخذتها الحكومة العراقية في اليوم الخامس لتهدئة المحتجين، لاسيما ما وعدت به من إغداق بعض الأموال على الفقراء، والوعد بانجاز مشاريع إسكانية وغيرها من الوعود التي سأم العراقيون سماعها طيلة السنوات الماضية، ليس من الحصافة الاعتقاد بأنها ستنفذ، بل هي وسيلة من وسائل التغطية على سلسلة إجراءات ستعمد الحكومة من خلالها إلى القبض على الشارع ومنع تكرار مثل هذه الاحتجاجات مرة أخرى. الوجه الجديد للسلطة هو وجه “الحشد الشعبي”، السلطة الفعلية التي ستزداد رسوخا في سلطة الحكومة، وكما بات معلوما فإن فصائل الحشد الشعبي باتت تشكل الذراع التي تثق إيران بولائها، والأداة الطيعة لتنفيذ المهمات الأمنية والعسكرية وحتى الشعبية. الجيش والقوى النظامية بطبيعتهما ينتميان إلى منظومة الدولة، فيما “الحشد” منظومة مذهبية دينية توالي مراجع خارج الدولة وخارج العراق أيضا.
الاحتجاجات فرضت مسارا جديدا وليس قصيرا، سيكون محفوفا بسلسلة تحديات أبرزها التعامل مع القبضة الأمنية التي ستسم سلوك السلطة في المرحلة المقبلة، فالحشد الشعبي هو الحارس الإيراني الفعلي لمنظومة السلطة. التحدي الثاني يتصل بتمدد المعارضة إلى مساحات سنية وكردية، في الحد الذي يخرج المشهد الاحتجاجي والتغييري من كونه حراكا في بيئة شيعية لا علاقة لبقية العراق بها. التحدي الثالث هو في الاستفادة من التجارب التي مر بها العراق وثورات الربيع العربي، أي أن السلمية والرؤية السياسية الواضحة والبرامج المتدرجة في عملية التغيير، كفيلة بإحداث التحول الإيجابي في عملية التغيير والإصلاح.
كل ذلك مهدت له الاحتجاجات في ما رفعته من شعارات، وفي اعتدادها بعراقيتها لا بعصبياتها الضيقة، هو ما يمكن إدراجه في سياق تبلور المعارضة الوطنية والمدنية العراقية، من خارج الاستقطاب الطائفي وحتى الحزبي، ووضعت إيران وأدواتها العراقية في موقع الخصم، لاسيما أن العراقيين، عموما، يدركون حجم الدور الإيراني في تركيب السلطة العراقية، ودورها الحاسم في تحديد المواقع القيادية داخل الدولة.
هذا المسار، الذي أسست له سلسلة تحركات مطلبية ومدنية خلال السنوات الماضية، نجح إلى حد كبير في نقل الحركة الاعتراضية من معادلة المحاصصة السياسية والطائفية إلى معارضة وطنية عراقية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق