يضيف الاجتياح التركي لشمال شرق سوريا فصلاً جديداً من فصول تورط أنقرة في إزكاء نار الحرب متعددة الأطراف التي انزلقت إليها الانتفاضة السورية، بعد أن انتقلت سريعا من النضال السلمي إلى العنف المسلح، مارة بحرب أهلية، ثم إقليمية ودولية سواء بالوكالة أو من دونها، لينتهي آخر مشهد فيها إلى إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إقامة ما يسميها «منطقة آمنة» في سوريا.
فتركيا كان لها دور ملموس في تطور هذه الحرب، بدءا من فتح الطريق واسعاً وممهداً أمام مسلحين متطرفين وإرهابيين غير متقاعدين ليدخلوا إلى أرض سوريا عدداً وعتاداً، وانتهاء بعقد صفقات خفية مع الأطراف المتصارعة على الساحة السورية لضمان مصالح أنقرة، ولو على حساب الشعب السوري، وليس فقط النظام الحاكم، وفي مقدمة هذه المصالح لجم أكراد سوريا، أو إضعافهم إلى درجة لا يفكرون معها في الانفصال وتكوين دولة، تراها أنقرة ملاذاً آمناً لمقاتلي «حزب العمال الكردستاني»، الذي تصنفه تركيا منظمة إرهابية.
وبعد اتضاح نوايا أردوغان ورغبته في إبقاء قواته في سوريا إلى أجل غير مسمى، ليحتل منطقة سورية أخرى إلى بلاده بعد لواء الإسكندرونة، فإن كل النوافذ ستفتح أمام الطاقة الكردية الاحتياطية، الكامن منها والظاهر، كي تنخرط في المعركة، التي من الممكن أن ينقلها «حزب العمال الكردستاني» إلى عمق تركيا نفسها، سوءا عبر حرب عصابات ضد الجيش التركي في جنوب شرق البلاد أو عمليات إرهابية داخل المدن التركية الكبرى، خاصة أن تركيا تعتبر «وحدات حماية الشعب» منظمة إرهابية وامتداداً لحزب «العمال الكردستاني» الذي حظرته أنقرة، وهو يشن حرباً مسلحة منذ ثلاثة عقود في جنوب شرق تركيا، الذي تقطنه أغلبية كردية، وهو إنْ كان قد تأثر بالقبض على زعيمه عبد الله أوجلان وسجنه قبل سنوات، فإن عملية عفرين يمكن أن تعيد إليه سابق نشاطه.
وما يجعل الأمر يتفاقم بالنسبة للجيش التركي، أن عمليته تلك قد أدت إلى توتر علاقات أنقرة بواشنطن، رغم عضوية البلدين في حلف شمال الأطلسي، نظراً لأن الولايات المتحدة الأميركية هي من قامت بتسليح الفصيل الذي تقوده وحدات «حماية الشعب» في القتال ضد تنظيم «داعش» في سوريا، والذي راهنت عليه أنقرة في كسر شوكة الأكراد، لكن انكساره أثار مخاوف أردوغان من أمرين هما: اتجاه السلاح والمقاتلين الأكراد من شمال سوريا إلى العمق التركي لمساعدة مقاتلي حزب «العمال الكردستاني»، أو أن يؤدي امتلاك هذه الوحدات للسلاح إلى إغراء أكراد سوريا بالانفصال، وهي مسألة تقاومها تركيا، ومعها إيران والحكومة العراقية في بغداد، خوفاً من سعى الأكراد في البلدان الأربعة ومنذ عقود طويلة إلى الاستقلال، وإن كانوا قد عبروا عن رغبتهم تلك بطرق اختلفت من بلد إلى بلد، ومن وقت إلى وقت.
وربما لا يدرك أردوغان حقيقة أن بلاده بها قوميات وعرقيات ومذاهب لم تندمج بشكل سلس وطوعي حتى الآن، فيمعن في فتح الجرح الكردي النازف، ويهين قادة الجيش وضباطه على خليفة الانقلاب الفاشل، مع أن الجيش هو ضامن قوي وأساسي لوحدة الدولة، كما يفتح أردوغان ذراعيه لمن لا يؤمنون بالدولة الوطنية من أتباع الجماعات والتنظيمات التي توظف الإٍسلام في تحصيل السلطة السياسية والثروة، ويستخف بالمعارضة العلمانية، فيضع تركيا كلها في مهب الريح، لاسيما مع تحالفه مع تنظيمات إرهابية على رأسها «داعش».
وقد تكون إقامة تركيا ما تسمى «منطقة آمنة» في سوريا هو بداية دخول تركيا في اضطراب، فالجيش إنْ طال به المقام في سوريا دون حسم، وواجه حرب استنزاف، فقد يرتد بعض قادته غاضبين على أردوغان، ولو فُتحت جبهة في جنوب شرق تركيا عبر حزب «العمال الكردستاني»، أو ظهر طرف إقليمي أو دولي سعى في صناعة فخ للأتراك في سوريا، فإن تركيا لن تكون بمنجاة من مشكلات عويصة، لاسيما أن لأردوغان برهاناته وتحالفاته أعداء كثيرين، في وقت بدأت تظهر فيه أصوات رافضة للعملية العسكرية داخل تركيا نفسها، فضلا عن ردود أفعال منتظرة من كردستان العراق، والأهم هو موقف أكراد تركيا.
نقلاً عن "الاتحاد"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق