صدرت عن دار هاشيت أنطوان/ نوفل رواية "بنت الخياطة" للشاعرة والكاتبة والصحافية اللبنانية جمانة حداد، تحكي ملحمة المآسي التاريخية المتعاقبة، الفردية والجماعية، وتفتّح قمر الضوء على أوجاع النساء العلنية وتلك المدفونة في اللاوعي، وتشرّع شموسها على مآسي الحروب والهجرات وأهوال الاغتصاب والتيه والوحدة، منذ بدايات القرن الماضي حتى الزمن الروائي الراهن.
الرواية التي تقع في 252 صفحة من الحجم الوسط، تأسر بأسلوبها وحبكتها وطريقة معالجتها لمواضيعها المتنوّعة، التي يتشكّل منها عقدٌ متآلفٌ ومتناسقٌ ومتكاملٌ من الشخصيات والأحوال والحوادث، التي يتوحّد فيها الألم الفردي بالألم الجماعي، في تناغمٍ جنائزيٍّ رهيبٍ للغاية.
جمانة حداد |
وبقدر ما تتأجّج نيران الحسّ الملحمي في الرواية، تنكتب صفحاتها بلغةٍ داخليّة خافتة وخفرة، وبرويّةٍ محكمة البناء، حيث ينسحب صوت البعد النسوي لصالح الكتابة الروائية المحنّكة التي تقول المآسي بلا صخبٍ وبلا ضوضاء وبلا هتافاتٍ على السواء.
"بنت الخياطة" ملحمةٌ عائلية عن نساءٍ ولدن قبل شعارات النسوية، وكنّ بطلاتها حتى وهنّ منكسرات: نساءٌ لم يجدن في أثدائهنّ حليبًا لإرضاع أطفالهن في شتات رحلة الآلام الأرمنية الفظيعة، نساءٌ اغتُصِبن لافتداء بناتهن، نساءٌ اجتهدن في الالتفاف على الحرب والجوع والفقر والذلّ.
نساءٌ في حلب، نساءٌ في عنتاب، نساءٌ في القدس وفي الشام وفي بيروت. نساءٌ من أزمنةٍ مختلفة بمصيرٍ واحد. نساءٌ هنّ ولائم هادئة وناضجة لوحش الوحدة، قبل أن ترمي بهنّ هذه الوحدة في حضن الموت الدافئ. أربعة أجيالٍ لنساءٍ من دمٍ واحد يسبح في بحيرة الألم. نساءٌ بكثيرٍ من القصص، بكثيرٍ من الحب، وبكثيرٍ من الموت.
من أجل كل هذه الصور المكثّفة والحكايات، شيّدت جمانة حداد نصّها بإحكام، مستخدمةً لغةً أدبية سلسة وكتابةً حسيّة بصرية في الدرجة الأولى، لكنها سمعية وشمّية تختلط فيها الأصوات بالألوان وبالروائح...
توقّع جمانة حداد "بنت الخياطة" في معرض بيروت الدولي للكتاب الأحد 9 كانون الأول المقبل، بين السادسة والنصف والتاسعة مساء.
يذكر أن جمانة حداد شاعرة وكاتبة لبنانيّة حازت جوائز عربيّة وعالميّة عدّة، فضلًا عن كونها صحافيّة ومترجمة وأستاذة جامعيّة. شغلت منصب المسؤولة عن الصفحة الثقافيّة في جريدة "النهار" لأكثر من عشر سنين، وعلّمت الكتابة الإبداعيّة في الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة في بيروت. هي ناشطة في مجال المساواة وحرية التعبير وحقوق الإنسان. اختارتها مجلة "آرابيان بيزنيس" للسنوات الأربع الأخيرة على التوالي واحدةً من المئة امرأة عربيّة الأكثر نفوذًا في العالم، بسبب نشاطها الثقافي والاجتماعي. من أعمالها "عودة ليليت"، "هكذا قتلتُ شهرزاد"، "سوبرمان عربي"، "الجنس الثالث"، ومسرحيّة "قفص" التي حصد عرضها نجاحًا كبيرًا.
مقتطف
أنا سيرون الأرمنيّة، وكيلةُ الذلّ في الصحراء. ليس في ذاكرتي إلّا أعمارُ التيه والإهانة والانحلال والموت. ليس في جسدي إلّا رائحةُ المنيّ والمقابر والقيح والدم المتخثّر. أنا الجثّة التي ولدَت من جثّة: لمَن أسلّم رفاتي التي تتناسل في الأمكنة؟
أنا ميسان الفلسطينيّة، ابنة الأرض المذهّبة بالشمس، صاحبة العين التي تقاوم المخرز، لن أسلّم مفاتيح البيوت، ولن أغلق الشرفات، ولن أغادر، حتى أشهد العودة إلى الأرض.
أنا شيرين اللبنانيّة، أشرب خراب لبنان وآلامه، ليعود القمر يزهو فوق جباله، من دون أن يعتري لحمه الأبيض جرحٌ أو هوان.
أنا جميلة السوريّة، حارسة الوديعة، أرفع دمي في وجه الليل ليكون جمرةً تحرق يد القاتل. اردموا السماء عليَّ، اجعلوني تحت غيومٍ دائمة، ومدِّدوني في شرايين الماء لكي أنهمر.
أنا الأرمنيّة، الفلسطينيّة، اللبنانيّة، السوريّة. أنا الجدّة والأمّ والابنة والحفيدة. أنا الرحم المدوّدة، الدورة التي بدأت بالانتحار، وانتهت بالانتحار. كم من ميتات بعد عليّ أن أحصي، كم من حيواتٍ عليَّ أن أرثي قبل أن أستحقّ الضوء؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق