في تأكيد جديد للميول الاستبدادية لنظام الرئيس التركي رجب إردوغان، أقالت حكومته في 19 أغسطس الجاري رؤساء بلديات أكبر ثلاث مدن كردية جنوب شرق تركيا وهي ديار بكر وماردين وفان؛ بسبب مزاعم مبهمة بأنهم من مؤيدي حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه أنقرة إرهابيًا.
ولكن، هذا الانقلاب على إرادة الشعب التركي، التي عبّرت عنها نتائج انتخابات المحليات في 31 مارس الماضي وإعادتها في إسطنبول في 23 يونيو الماضي، لم يمرّ دون مقاومة، إذ اندلعت احتجاجات غاضبة في مختلف بلديات تركيا خاصة ذات الأغلبية الكردية، ضمت غالبية أطياف المعارضة التركية.
في تقرير نشرته، أمس السبت، قالت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، إن هذه الاحتجاجات الواسعة تذكر بالقمع في الصين وروسيا مع نضال سياسي مستمر طوال قرن من أجل الحصول على حريات أكبر.
الصحيفة الأمريكية أكدت إنه برغم ديكتاتورية نظام إردوغان الذي يحكم البلاد منذ 17 عامًا، إلا أن تركيا عرفت خلال تجربتها الديمقراطية الممتدة منذ خمسينيات القرن الماضي فترات من الحكم الاستبدادي، أعقبتها انفراجات، وهو ما يدعو إلى الأمل في أن الأوضاع التي تعيشها البلد الأناضولي حاليًا سوف تنقضي.
استبداد مستمر
كغيرها من الأنظمة الاستبدادية العديدة، تقاضي حكومة العدالة والتنمية المعارضة بواسطة تهم مزعومة متعلقة بالإرهاب، فمنذ محاولة الانقلاب المزعوم في 15 يوليو 2016، اعتُقل نصف مليون شخص بدعوى ضلوعهم في عمليات إرهابية، بحسب "واشنطن بوست".
وما زال هناك الكثير ممن يتم التحقيق معهم بسبب انتقادهم لسياسة حكومة إردوغان تجاه الأكراد أو لمشاركتهم في النشاط السياسي، ويشمل ذلك الأكاديميين والصحافيين والسياسيين المنتخبين، مثل الزعيم الكردي المسجون صلاح الدين دميرطاش.
مفعمون بالأمل
أستاذة علم النفس بجامعة البوسفور إسراء مونغان Esra Mungan قالت لـ"واشنطن بوست": "حتى إن كان عددنا قليل منا، لكن صوتنا له ثقل، أنا أصمم على أن نكون مصدر إزعاج يواصل مضايقة السلطات. لا أخطط لأي أمر آخر".
مونغان من بين الموقّعين على عريضة "أكاديميين من أجل السلام"، التي ظهرت عام 2016 للدعوة إلى العودة إلى محادثات السلام مع حزب العمال الكردستاني التي أجهضتها حكومة إردوغان ديسمبر 2015، وإدانة السياسات الأمنية المتشددة في مناطق الأكراد.
أكثر من ألفيْ أكاديمي وقعوا على العريضة، تم طرد المئات منهم من جامعاتهم، وصودرت جوازات سفر كثير منهم، فيما لا زال حوالي 790 شخصا يواجهون المحاكمة، لكن كفاحهم من أجل إرساء الديمقراطية مستمر.
بعد إلقاء القبض عليها في 2016، تلقت مونغان العديد من عروض العمل في أوروبا أو الولايات المتحدة، لكنها رفضتهم جميعا. وقالت للصحيفة الأمريكية: "أنا متفائلة. فمئات الشباب من حولي مفعمون بالأمل".
تهم ملفقة
بحسب "واشنطن بوست"، هناك بند في قانون العقوبات التركي (المادة 7/2) ينص على أن "الدعاية الإرهابية" تعادل جريمة الانضمام إلى منظمة إرهابية، وفيما يبدو البند غير ضار، لكنه على أرض الواقع يسمح للسلطات بتصنيف أي خطاب أو مقال على أنه دعاية إرهابية دون إثبات أي صلة فعلية بالإرهاب.
مراد تشليكان واحدًا من هؤلاء "الإرهابيين"، على حد تصنيف السلطات، فهو الرئيس المشارك لإحدى منظمات حقوق الإنسان الرائدة في تركيا، وهي Hafiza Merkezi، ويركز عمل هذه المنظمة على حالات الاختفاء منذ فترة التسعينات في الأغلب، لكنها شاركت أيضا في صياغة تشريعات حقوقية أثناء عملية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.
في 2016، كان تشليكان من بين مجموعة من الليبراليين الذين يدعمون صحيفة أوزغور غونديم Ozgur Gundem الموالية للأكراد ضد ضغوط حكومة إردوغان، وذلك من خلال التطوع للعمل كرئيس التحرير ليوم واحد.
هذه الخطوة تسببت في دخوله السجن عام 2017، وأمضى أشهر في السجن وهو يدّرس اللغة الإنجليزية لزملائه السجناء، والذين كان معظمهم من الأكراد الشباب ممن سجنوا بسبب منشوراتهم على مواقع التواصل الاجتماعي. تشليكان قال لـ"واشنطن بوست" إن "الطبيعة التعسفية لما يحدث تتسبب في إرهاب الشعب".
بعد إطلاق سراحه، كان تشليكان مفعما بالنشاط، حيث عاد للعمل بحماس متجدد، وأصدر بعدها كتابًا جديدًا ربما يعد مصدرًا رائعا لأي شخص يزور إسطنبول.
"لا يأس"
من ضمن الموقعين على عريضة "أكاديميون من أجل السلام، تونا ألتينيل Tuna Altinel، وهو أستاذ في علم الرياضيات في فرنسا، الذي تمت مصادرة جواز سفره في أبريل الماضي، عندما جاء إلى تركيا لزيارة صديقته.
ألتينيل أيضًا قبع في السجن، واتُهم بأنه "إرهابي" لأنه تحدث في فعاليات تضامن كردية - فرنسية عُقدت في مدينة ليون تم بثها مباشرة على موقع فيسبوك. ألتينيل أمضى وقته في السجن وهو يدرّس اللغة الفرنسية (6 ساعات في اليوم) لزملائه المتحمسين، ومعظمهم من الأكراد الشباب في الثلاثينيات من العمر يقضون أوقاتهم في احتجاجات وسائل التواصل الاجتماعي.
وبعد شهر من إطلاق سراحه قال ألتينيل لـ"واشنطن بوست": "كانت تجربتي في السجن قصيرة وإيجابية. التقيت مع شباب أذكياء للغاية. إذا كانت تركيا مكانًا نزيهًا، لم يكن هؤلاء الشباب ليدخلوا السجن. سوف أستمر في القتال من أجل ذلك. أنا مدين لهم، ومدين لهذا البلد".
الصحيفة الأمريكية قالت إنه بفضل الاهتمام الدولي اضطرت سلطات العدالة والتنمية في النهاية إلى إطلاق سراح أشخاص رفيعي المستوى بعد بضعة أشهر من سجنهم، لكن لا زال الآلاف من الطلاب والصحافيين والمواطنين العاديين قابعين في السجن بتهمة "إهانة الرئيس" أو "الدعاية الإرهابية"، على الرغم من أنهم لم يدافعوا عن العنف على الإطلاق وليس لديهم أي صلات واضحة بالمنظمات الإرهابية.
واشنطن بوست قالت إن هذا الأمر لن يدوم. "فعاجلا أم آجلا، سوف يتعين على الحكومة التركية التخفيف من حدة قبضتها. يحتاج إردوغان إلى إدراك أن حشد الطلاب والأكاديميين في السجون التركية لن يطيل فترة ولايته ولن يجعل تركيا مزدهرة وآمنة. وحدها الديمقراطية التي يُمكنها القيام بذلك".
ثمن الإنسانية
أكثر من ثلاث سنوات مرت على إعلان حركة "أكاديميون من أجل السلام" رفضها للحملة العسكرية الشرسة التي تشنها حكومة العدالة والتنمية ضد الأكراد في جنوب شرق تركيا تحت ذريعة محاربة حزب العمال الكردستاني، وإلى الآن مازالت المنطقة ساحة للحرب، فيما بات أعضاء الحركة أعداءً مباشرين للرئيس التركي، رجب إردوغان.
في مواجهة العنف المتزايد في جنوب شرق تركيا، قرر أكثر من 2000 أكاديمي عدم التزام الصمت وأصدروا بيانًا بعنوان "لن نكون طرفًا في هذه الجريمة!" في يناير 2016، دعوا خلاله القوات الحكومية للالتزام بالقانون المحلي والدولي والعودة إلى عملية السلام.
ولكن حكومة إردوغان وبدلًا من مد يدها بالسلام، اعتبرت الموقعين على العريضة "إرهابيين"، وشنت وسائل الإعلام الموالية لها حملة كراهية وتشهير ضد الحركة، في إطار حملة شرسة ضد أعضائها شملت التشوية والتهديد والتحويل للتحقيقات الإدارية والجنائية.
المئات من الموقعين على العريضة تعرضوا للطرد من مناصبهم بأمر من مجلس التعليم والإدارات الجامعية، وألغيت جوازات سفر 400 آخرين لمنعهم من السفر للخارج، وفي مرحلة لاحقة وتحديدًا منذ ديسمبر 2017، بدأ التحقيق مع بعضهم بتهمة "الدعاية لمنظمة إرهابية".
وحتى منتصف يونيو من العام الجاري، تم توجيه الاتهام إلى 742 من الموقعين على العريضة، وصدرت أحكام بالفعل على 190 شخصا وصلت إلى 15 شهرًا.
من ضمن المحكوم عليهم بالسجن، بدأت البروفيسور فوسون أوستيل قضاء بعض الوقت في سجن النساء في إسكي شهر، ومن المتوقع أن تقضي 11 شهرًا ما لم يتم إجراء أي تعديلات أو قرارات مؤقتة أخرى، بعدما رفض طلب تأجيل تنفيذ عقوبتها.
وفي 11 يوليو الماضي، صدر حكم بالسجن لمدة عام و3 أشهر بحق الباحثة في قسم علم الاجتماع بجامعة الشرق الأوسط التقنية، سيبال باكير أوغلو، أحد أعضاء حركة أكاديميون من أجل السلام، بتهمة الدعاية لمنظمة إرهابية.
محامي سيبال، جميل أدي يامان قال خلال مرافعته في الجلسة التي عُقدت في محكمة العقوبات المشددة رقم 27 في إسطنبول، إنه لا يوجد إطار واضح لتهمة الدعاية لمنظمة إرهابية، لافتًا إلى أن العريضة التي وقعها أكثر من ألفي أكاديمي لم تمتدح أية منظمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق